التضامن مع وزير العدل: أهو الإنصاف أم التحالف مع الشيطان؟
رغم الاستياء الذي خلفته مجموعة من خرجات وزير العدل المغربي لدى مختلف الفئات المجتمعية، والتي كان آخرها -ولن تكون الأخيرة -إذا ما استمر في منصبه، استهزاءه بالحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان". ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن يقدم فيه اعتذارا ولو شكليا، وهو أقصى ما يمكن أن يقوم به لحفظ ماء وجه الوزارة التي "شُرِّف" بتسييرها، حتى وهو يعلم علم اليقين أنه لن يُقبل منه سواء تعذر بجهله للحديث المعني، أو بكونه عارفا له لكنه كان يمزح. ذلك أنه إذا كان الاعتذار بسبب جهله، وهو وزير للعدل في حكومة دولة يُعتبر الإسلام دينها الرسمي، فماذا عسى أن يقول ذلك المواطن العادي، إذا علمنا أن انتمائه للدين الإسلامي يُلزمه بالإلمام على الأقل بالمعلوم من الدين بالضرورة، أما إذا كان باعتباره مازحا، فلْيعْلم أن للمزاح في الإسلام ضوابط، من أهمها أن لا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين، مصداقا لقوله تعالى في الآيتين 65 و66 من سورة التوبة: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ...﴾. قلت، في الوقت الذي كان يُنتظر منه اعتذار، ولو على المستوى الشكلي، خَرجَتْ علينا ما يسمى "بالجبهة الوطنية لمناهضة التطرف والإرهاب" برسالة مفتوحة تضامنا معه، تم نشر بعض مضامينها على مجموعة من المواقع، من بينها ما جاء في مقال لإحدى الجرائد الإلكترونية الذائعة الانتشار تحت عنوان: "جبهة مناهضة التطرف تتضامن مع وهبي"، بحيث نقرأ ما يلي:
- "إن 'البي جي دي' أصدر بلاغاً صادراً عن الأمانة العامة يوم الثلاثاء 20 غشت 2024، نعتبره ترهيبا للوزير وللمجتمع؛ حتى لا يستمر النقاش الهادئ والسياسي حول الحقوق الفردية، وخاصة العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين بتجريمها بمبررات ماضية غير عقلانية وبعيدة عن الواقع".
- المراسلة دعت إلى "تكثيف حملات التضامن مع كل من توجه إليهم سموم الكراهية والتحريض من طرف الإسلام السياسي باسم الدين الإسلامي المعتدل الموصوف في الدستور؛ والذي هو بريء منهم"، مُطالِبَة "وزير العدل بتغيير أسلوب تقديم القوانين ذات الصلة بالحريات بتقديمها بالطريقة اللائقة بوزير ومنسجمة مع حجم وأهمية القوانين التي يجب الدفاع عنها بالجدية والرزانة المطلوبتين، وليس بالنكت".
- الجبهة المذكورة اعتبرت أن "الحديث الذي انتُقد الوزير من أجله هو حديث غير متواتر ولا حتى عن ثلاثة أشخاص وغير موجود عند أغلب مصادر الحديث وبمناقشته يصعب جدا نسبه إلى الرسول (ص)"، خالصة إلى أنه "لا يمكن اعتبار انتقاده، ولو بالطريقة التي تحدث عنها وزير العدل، إهانة للإسلام أو أن هذا الحديث برمته يعتبر إسلاما؛ فهناك العديد من الفقهاء انتقدوه وضعّفوه".
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند القراءة الأولية للمقال هو أن الجبهة المشار إليها تتوخى إنصاف وزير العدل والمجتمع معا من ترهيب "الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية" الذي يمنع استمرار النقاش الهادئ والسياسي حول الحقوق الفردية، لكن القراءة المتأنية لما نُسب إلى بلاغ الجبهة يوجب الملاحظات التالية:
- إذا كان وزير العدل قد قام بما يُوجِب إرهابَه، بل ويوجب متابعته قضائيا، كما طالبت بذلك مجموعة من الفعاليات المجتمعية، من بينها "الجمعية المغربية للتنمية وتثمين مبادرة الحكم الذاتي بطانطان" التي راسلت الديوان الملكي في الموضوع، مع العلم أن إساءته للإسلام باعتباره وزيرا للعدل قد فاقت بكثير إساءة بعض المدونين الذين تمت محاكمتهم بتهمة الإساءة للإسلام، أو تحريف بعض آياته. وعليه فإن ما صدر عن السيد الوزير يستحق أكثر من الإرهاب، خاصة إذا علمنا أن ما ورد في بلاغ العدالة والتنمية لا يعدو أن يكون استنكارا لتصريحاته التي تحتقر وتستهزئ بثوابت الدولة والمجتمع، لكن السؤال يبقى مطروحا بخصوص تعميم إرهاب بلاغ العدالة والتنمية على المجتمع المغربي، علما أن هذا الأخير يدين بالإسلام ليس باعتبار الدستور فحسب، بل وباعتبار الواقع المعيش، الذي يمكن الاستئناس في شأنه بنتائج تقرير مركز 'بيو' الأمريكي الذي أورد أن "قرابة 90 في المائة من المغاربة يشددون على أهمية الدين في حياتهم، فيما يؤكد أكثر من 70 في المائة منهم أنهم مواظبون على الصلاة بشكل يومي"، ومن ثم فأي مجتمع هذا الذي تقصده رسالة "الجبهة...".
- إذا كانت خرجات وزير العدل العلنية بغض النظر عما يُدبَّر في الخفاء، تستهدف ثوابت الأمة ومقدساتها بشكل مستفز لمشاعر جل إن لم أقُل كل المغاربة، باستثناء تلك الجمعيات المشبوهة المعروف موقفها من الإسلام، فكيف يتم الركوب على بلاغ العدالة والتنمية ووصفه بأنه يُعرقل استمرار النقاش الهادئ والسياسي حول الحقوق الفردية و....؟ كما لو كان هناك انخراط للمجتمع في هذا النقاش الذي لا يوجد أصلا، والذي لن يَقبل بوجوده ما دام يَدين بدين الإسلام. أم أن الهدف هو إرهاب ضمني من أجل إخلاء الساحة لهذه الجبهة ومثيلاتها من الجمعيات التي تعمل في نفس الاتجاه، حتى تتمكن من بث سمومها عبر المجتمع دون حسيب ولا رقيب، وأنَّا لها ذلك؟
- إذا كان النقاش ضروريا للحسم في بعض القضايا الخلافية داخل المجتمعات، فإن من بديهياته الإعلان عن المرجعيات التي تنطلق منها مختلف الأطراف المعنية، حتى إذا اتضح أنها تتقاطع عند بعض القضايا المشتركة تم الشروع في مناقشتها، أما إذا كان التنافي في المرجعيات هو الأصل، بحيث يصر طرف على إلغاء الطرف الآخر، كما هو الشأن بالنسبة لهذه الجبهة وباقي العلمانيين الذين يشتركون معها في اعتبار تجريم العلاقات الزنائية - بتعبير محمد طلال لحلو- يتم بتبريرات ماضية غير عقلانية وبعيدة عن الواقع، مما يضرب الإسلام في الصميم، كما لو أن قول الله تعالى في 32 الآية من سورة الإسراء ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ وقوله في الآية 151 من سورة الأنعام ﴿...وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ... ﴾ وغيرهما من الآيات التي تنظم حياة البشر أفرادا وجماعات أصبحت لاغية. فأي نقاش هذا الذي يُتكلم عنه، وأي هدوء يُمكن أن يسوده مع الإصرار على فرض الرأي الواحد والإقصاء الكلي للآخر. والمشكل الأساس في التعامل مع هذه الشريحة من العلمانيين، هو مراوغتهم في الإفصاح الصريح عن موقفهم المعادي للإسلام، في الوقت الذي يبرهن فيه الواقع على محاربتهم له باستعمال مختلف الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة، ولعل دعوة "الجبهة" إلى "تكثيف حملات التضامن مع كل من تُوجه إليهم سموم الكراهية والتحريض من طرف الإسلام السياسي باسم الدين الإسلامي المعتدل الموصوف في الدستور"؛ من بين أساليب التضليل والخُبث التي تعمل على شَرذَمة المسلمين باختلاق تسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وما ابتداع ما أطلقوا عليه الإسلام الأمازيغي إلا مثالا صارخا في هذا الصدد، ثم أين تتجلى سموم الكراهية والتحريض التي يختص بها الإسلام السياسي دون الإسلام الموصوف في الدستور؟ أفي رفض شيوع الزنا والشذوذ الجنسي؟ أم في عدم القبول بالإفطار العلني في رمضان، أم في معارضة الحرية المطلقة في الإجهاض أم...
- إذا كان عداء الجبهة ومن والاها للإسلام عداء يكاد يكون عقديا، إن لم يكن كذلك نظرا لمرجعيتهم "الكونية"، فإنه من غير المنطقي أن يتحولوا بقدرة قادر إلى فقهاء في الحديث، ويسمحوا لأنفسهم بالحكم على الحديث المعني بأنه غير متواتر، وبصعوبة نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم، ليخلصوا إلى أنه "لا يمكن اعتبار انتقاده، ولو بالطريقة التي تحدث عنها وزير العدل، إهانة للإسلام أو أن هذا الحديث برمته يعتبر إسلاما..."
في الأخير أقول لهذه الجبهة ومن على شاكلتها، انزعوا عنكم ما تبقى من أقنعتكم وأعلنوها حربا على الإسلام وقيمه، دون التخفي وراء تلك المصطلحات التي تم تحوير مضمونها وتحميلها ما لا تحمله في الأصل، كما هو الشأن بالنسبة لمصطلحي التطرف والإرهاب الذين أصبح يُلوَّح بهما ضد كل من حاول أن يدافع عن ثوابته وقيمه التي بدونها مآله مزبلة التاريخ، أما إذا كنتم ترغبون في التعرف على التطرف والإرهاب بالمعنى الذي تقصدونه، فما عليكم سوى تقديم أدنى انتقاد "للسامية" في فرنسا، وقبل ذلك تتبع مصير كل من اتُّهم بمعاداتها في هذا البلد الذي يتبجح بكونه بلد الأنوار، وهذا على سيبل المثال لا الحصر، وإلا فالغرب ملة واحدة، ولا أدل على ذلك تلك الإجراءات المتخذة ضد الأصوات التي انتفضت ضد إبادة الشعب الفلسطيني، في كل من الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا...
وختاما أسأل "الجبهة" وكل الذين يشتغلون على نفس الأجندة، عما إذا كان تضامنهم مع وهبي أساسه وازع أخلاقي دفع بهم إلى الإحساس بضرورة إنصاف رجل مظلوم أخلاقيا، أم أنه تحالفٌ مع الشيطان للظفر بمساعدته انطلاقا من موقعه كوزير، لتنفيذ أجندة مخترعي المبادئ الكونية؟ وإذا كان الأمر كذلك فليعلموا أن مصيرهم إلى الجحيم عقاباً لهم على خطاياهم التي لا يمكن أن تُغتفر، على غرار مصير الدكتور فاوست الذي باع نفسه للشيطان كما تحكي الأسطورة الألمانية. *
*انظر مقالا مهما في موضوع التحالف مع الشيطان على الرابط التالي:
https://www.alayam.com/Article/courts-article/86028/Index.html
وسوم: العدد 1093