السر في تأييد أنظمة غربية وأخرى عربية إصرار الكيان الصهيوني على استئصال شأفة المقاومة الفلسطينية

إذا كان تجريم الغرب للمقاومة الفلسطينية منذ أول يوم طوفان الأقصى أمرا متوقعا ،ولا يدعو إلى استغراب باعتبار التأييد الذي يخص به الكيان الصهيوني ،والتعاطف التقليدي معه ، فإن ما يثير الانتباه  هو انحشار أنظمة عربية مع الغرب في هذا التأييد ،مخالفة بذلك إرادة شعوبها التي لم تهدأ مسيراتها  ومظاهراتها المليونية المؤيدة للمقاومة الفلسطينية طيلة عام كامل . وإذا كان الغرب قد سخر طاقته الإعلامية العملاقة من أجل إفراغ  هذا الطوفان من دلالته ، والاستنقاص من شأنه ، وتسويق ذلك على أوسع نطاق  في الشعوب الغربية ، فإن النتيجة التي كان يتوقعها من تسويقه  جاءت عكس مراده ،حيث انطلقت مسيرات ومظاهرات  مليونية في كل الأقطار الغربية منددة بالمجاز الصهيونية الرهيبة في قطاع غزة ، وبالإبادة الجماعية  غير المسبوقة ، وفي نفس الوقت تندد بتأييد أنظمتها لهذا الكيان، وإمداده بالأسلحة الفتاكة ، بل والمشاركة إلى جانبه في تلك الجرائم  الوحشية التي فاقت  كل جرائم الحروب  السابقة بأشواط كبيرة .

ولم يقف الغرب عند حد التسويق الإعلامي لشيطنته المقاومة الفلسطينية ،بل أوعز إلى أنظمة عربية  بعينها تسخير طوابير خامسة محسوبة على  البحث والخبرة، والدراسات الأكاديمية  في الوطن العربي من أجل تسويق هذه الشيطنة بطرق شيطانية، تعتمد أساليب الدس الخبيث على المقاومة الفلسطينية وتسويقها بين الشعوب العربية من خلال ندوات ولقاءات تمت تغطيتها إعلاميا على أوسع نطاق.  

ونذكر من تلك الندوات واللقاءات على سبيل المثال لا الحصر ندوة : " الحركات الدينية والحقل السياسي أي مصير ؟ ، وهي ندوة نظمت فيما سمي بفعاليات موسم  مدينة أصيلة  المغربية الثقافي الدولي في دورته الخامسة والأربعين، والتي استمرت طيلة يومين .

 ومما جاء في التغطية الإعلامية لهذه الندوة في الموقع المعروف عندنا بتوجهه العلماني الصريح  أن عملية طوفان الأقصى زادت من أشكال التعبئة الدينية لفائدة جماعات الإسلام السياسي الحاضرة بقوة في الحياة والمجتمعات العربية، والتي تعيش مرحلة كمون ، وخص بالذكر منها  جماعة الإخوان المسلمين في مصر .

وواضح من خلال هذا الطرح محاولة  بخس الطوفان من جهة ، ومن جهة أخرى بخس المسيرات والمظاهرات المليونية المؤيدة للقضية الفلسطينية  التي تشهدها العديد من الأقطار العربية والإسلامية، فضلا عن الأقطار الغربية في شتى  أنحاء المعمور ، وذلك بمن خلال اعتبارها تعبئة  جماعات الإسلام السياسي ، وليست مجرد مسيرات ومظاهرات عفوية، جاءت كرد فعل على مشاهد الإجرام الصهيوني البشعة في حق أطفال ونساء وشيوخ غزة .

وهذه الندوة مجرد غيض من فيض ، ذلك أم مثلها كثير في كثير من البلاد العربية  إذ لا ينقطع الحديث إعلاميا  عناه خصوصا في أقطار معنية  بشيطنة المقاومة الفلسطينية ، وبمحاولة بخس طوفانها، الشيء الذي يدعو إلى طرح السؤال الآتي وهو سؤال مشروع  :

 ما هو السر في حرص أنظمة عربية  على تأييد إصرار الكيان الصهيوني على استئصال شأفة المقاومة الفلسطينية  في قطاع غزة  تحديدا؟

والجواب عن هذا السؤال يستدعي العودة إلى قضية ثورات الربيع العربي التي فاجأت الكيانات الغربية، كما فاجأت الكيان الصهيوني، لأنها خلقت وضعا سياسيا  غير متوقع  إذ جرت رياحه بما لا تشتهي سفنه، وسفن الغرب المؤيد له حيث أطاحت بأنظمة كان وجودها يخدم الكيان الصهيوني، وعلى رأسها النظام المصري . وما كادت تلك الثورات تندلع حتى هرع الغرب منزعجا للقضاء عليها في مهدها ،صيانة لأمن الكيان الصهيوني أولا ، وصيانة لمصالحه في الشرق الأوسط ، وفي عموم الوطن العربي. وما لبثت ثورات الربيع العربي أن واجهت ثورات مضادة ، نذكر منها الثورة المضادة في مصر، والتي صنعت من أجل دعم وتأييد الانقلاب العسكري على الديمقراطية الفتية ، وعلى الشرعية . وبالانقلاب العسكري في مصر توالت انقلابات أخرى أخذت طابعا آخر ، وقد سماها البعض انقلابات انتخابية كما حدث في تونس على سبيل المثال ، التي لم تختلف نتيجتها عن نتيجة الانقلاب العسكري في مصر ، وقد أعادت الوضع السياسي إلى ما كان عليه قبل ثورات الربيع العربي.

ومعلوم أن ثورات الربيع العربي كان محركها الأساسي هو غياب الديمقراطية الحقة ، وطغيان الاستبداد ، وتردي الحياة المعيشية إلى أدنى مستوياتها، لكن لا يمكن إغفال دور القضية الفلسطينية فيها ، والتي طال أمدها دون أن تعرف حلا عادلا ،ينتهي بحصول الشعب الفلسطيني على حقه في الحرية والاستقلال فوق أرضه المختلة ، وهو أمر لم يغب قط عن ذاكرة الشعوب العربية  والإسلامية ، وهو ما تؤكده اليوم المسيرات والمظاهرات المليونية التي لا تنقطع ولا تهدأ .

ولهذا فإن الذي جعل أنظمة عربية  خصوصا تلك التي وأدت ثورات الربيع العربي  في مهدها تؤيد إصرار الكيان الصهيوني على استئصال  شأفة المقاومة في غزة  هو التوجس من اندلاع تلك الثورات من جديد ، الشيء الذي قد يؤدي إلى سقوطها و نهايتها ، ومن ثَم يؤدي إلى تغير الوضع السياسي في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص ، وفي الوطن العربي عموما ، وهو ما يهدد الكيان الصهيوني تحديدا في وجوده  ، كما يهدد مصالح الغرب التي يصفها بالاستراتيجية والحيوية ،والتي من أجلها استنبت الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي كسرطان خبيث، يتمدد طولا وعرضا في هذا الوطن كما صرح بذلك خبراء ومفكرون على اطلاع بالأطماع التوسعية للكيان الصهيوني في المنطقة ، وهو توسع يصرح به علانية ، وعلى اطلاع بما يخدم ذلك المصالح الغربية .

ومعلوم أن طوفان الأقصى قد انطلق في ظرف كان الكيان الصهيوني فيه يرتب لما سمي بصفقة القرن أو الشرق الأوسط الجديد ، وقد أنشأ  لذلك ما سماه بيتا إبراهيميا ترتب عنه التطبيع مع الأنظمة العربية ، وذلك على حساب القضية الفلسطينية التي  حاول إسدال الستار عليها منذ اتفاقية أسلو . وطوفان الأقصى في نظر الغرب والصهاينة ، وتحديدا الأنظمة العربية التي أجهزت على ثورات الربيع العربي هو شرارة جديدة لاندلاعها من جديد ، لهذا انطلقت اللقاءات والندوات في طول وعرض الوطن العربي من أجل بخس  هذا الطوفان ، بل  وشيطنته معتبرة إياه مؤامرة  نسبت لما سمته جماعات الإسلام السياسي الموجودة في حالة كمون ، والمحرضة على ثورات ربيع  عربي جديد .

وليس من قبيل الصدفة أن يكون من ضمن المشاركين في ندوة أصيلا المصري نبيل عبد الفتاح المحسوب على البحث فيما يسمى الإسلام السياسي ،وهو فيما يبدو من مؤيدي الانقلاب على الديمقراطية والشرعية في مصر، وقد ركز على ما سماه توظيفا  سياسيا ودينيا مفرطا لعملية طوفان الأقصى من قبل جماعة الإخوان المسلمين، ومن طرف  المتعاطفين معها ، وهي جماعة  تتمدد تمددا قاعديا وصفه بالناعم في الأرياف ، و في هوامش المدن في مصر ،مع التوظيف الرمزي لزي المرأة وأسلمته ، ليس من أجل الأخلاق والحشمة بل من أجل تحقيق أهدافها السياسية .

ومثله في التوجه  مواطنه  المصري المدعو نصر عارف مستشار رئيس مجلس المجتمعات المسلمة بدولة الإمارات الذي استبدل اسم الإسلام السياسي باسم التوظيف السياسي للإسلام . وهما معا من ضمن الطوابير العلمانية  الخامسة المسخرة لبخس طوفان الأقصى من جهة ، ولشيطنة المسيرات والمظاهرات المليونية في الوطن العربي من خلال نسبتها إلى توظيف جماعات الاخوان المسلمين  لها عوض اعتبارها تفاعلا  عفويا مع قضية الشعب الفلسطيني المظلوم  ظلما صارخا ، والذي يباد  اليوم إبادة جماعية .

ولم تختلف وجهة نظر المدعو محمد البشاري المغربي من مواليد مدينة وجدة والحامل للجنسية الفرنسية ، والذي يشغل مهمة أمين عام  المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة  أو أمين المؤتمر الإسلامي الأوروبي عن وجهة نظر المصريين نبيل عبد الفتاح ، ونصر عارف ، إذ عبر بدوره عن شيطنة ما سماه جماعات الإسلام السياسي .

ولا يجب أن ننسى بأن من يسمون باحثين في جماعات الإسلام السياسي هم من دعاة العلمانية المستأجرون غربيا وعربيا، وأنهم يعتبرون المقاومة الفلسطينية وليدة هذه الجماعات ، وأن طوفانها يشكل خطورة على الوضع السياسي في الوطن العربي الذي يطمحون إلى إبعاده الكلي عن التوجه الديني الإسلامي، تمهيدا  لجره  نحو البديل العلماني  المنشود لديهم ، وهو ما يخدم العلمانية الغربية ، كما يخدم الكيان الصهيوني على وجه الخصوص ،لهذا نشأت لديهم حساسية مفرطة من طوفان الأقصى، ومما ترتب عنه من حراك كبير عبر أقطار الوطن العربي  والإسلامي ، وحتى عبر أقطار العالم الغربي . فإذا ما وجد هؤلاء ما يبررون به  هذا الحراك العربي  الإسلامي المؤيد  للقضية الفلسطينية ، والمندد بجرائم الإبادة الجماعية في غزة ، و هو تحميل المسؤولية في ذلك لما يسمونه جماعات الإسلام السياسي ، فما هو تبريرهم للحراك العالمي  خصوصا في بلاد الغرب وهي بلاد العلمانية بامتياز  وقد سارت السافرات سفورا علمانيا جنبا إلى جنب مع المحجبات  ؟

وأخيرا نقول للثالوث العلماني في ندوة أصيلا المغربية ، وخصوصا مواطننا الوجدي  الذي لا شك أنه  على دراية بروح الدعابة  في الثقافة الوجدية  إن الإنسان العربي اليوم لم يعد ذلك الغراب البليد الذي خدعه الثعلب ، فأغراه بأن يغرد له من أجل الحصول على جبنة كانت في منقاره ،  بل هو اليوم  غراب ذكي يغرد والجبنة تحت جناحه، وذلك لأنه مسلم لا يمكن أن يلدغ من جحر مرتين  وقد تلقى الإسلام  غضا طريا من منابعه ، وليس من جماعات الإسلام السياسي .

وسوم: العدد 1099