«السنوار»… أصل الحكاية ولد… فارس ولا زيه!
وصلنا إلى مرحلة، ما لا تذيعه «الجزيرة» ليس خبراً، تماما كما كان السابقون يقولون: لم يمت من لم ينشر «الأهرام» نعيه في صفحات الوفيات به!
الأول واقعاً، أم الثاني فهو صيغة مبالغة، لأن صحيفة «الأهرام» المصرية كانت تصدر يومياً وصفحات الوفيات كانت جزءاً لا يتجزأ من إصدارها اليومي، وهو الإعلان مدفوع الأجر، الذي كان يضمن وصول برقيات للأسرة من رئاسة الجمهورية، والقيادات السياسية والتنفيذية، فأما وقد نشر النعي في «الأهرام»، فهذا كاشف عن «اللياقة الاجتماعية» للفقيد، وهو الحال الذي تغير الآن، فعدد صفحات «الأهرام» الآن أقل من عدد صفحات الوفيات في العهد البائد، قبل أن تشكل مصر دولة، أو عندما كانت شبه دولة، في قول، وحاجة كده، في قول آخر، ثم قالوا للجنرال: خذ دي، حسب قول الجنرال ذاته، وإن لم يوضح من هم الذين قالوا له: خذ دي؟ هل هم أسيادنا في العالم السفلي؟!
ظلت قناة «العربية» وأخواتها، تبث أنباء عن اغتيال القائد يحيى السنوار، وبالتدريج، من أول الاحتمال أن يكون ما عثر عليه القوم هو السنوار، وأنهم في مرحلة تحليل حامض الـ «دي أن أي»، وكان هذا خطأ لا يصب في مصلحة «العربية» وأخواتها، ومن تعبر عنهم، هي وأخواتها أيضا، لأنه مهد الناس لقبول الخبر عندما تم جرى التسليم بصحته، وكان من الأفضل الانتظار حتى تكتمل الرؤية، ويكون النشر هو قتل السنوار، أو تصفيته على أيدي جيش الاحتلال، وإن كانت «العربية ومن حولها»، لن تقول جيش الاحتلال. إنها إن نشرت خبر الاغتيال مباشرة فستتحقق الصدمة المطلوبة، وإن لم تكن مكتملة لأن «الجزيرة» لم تبث خبر الاغتيال!
ما أذاعته «العربية»، و»سكاي نيوز»، و»الحدث»، لم يكن نسبة لمصادر خاصة، أو نقلاً عن مراسليها في الأرض المحتلة، ولكن نسبة إلى إعلام إسرائيلي، تنقل عنه «الجزيرة» أيضاً، لكنها قررت التروي في نقل هذا الخبر، وأعطت نفسها براحاً حتى اقترب من الانتقال من مجرد «أنباء»، إلى الإعلان الرسمي!
تأليف رواية الاغتيال
بدا واضحاً أن القيادة الإسرائيلية، لا تنتظر حتى تتأكد من أن السنوار، فقد كان جثمانه في حوزتها قبل ساعات، ولكنهم كانوا ينسجون رواية، تنزع عن السنوار بسالته، فهو مشتبه فيه، لأنهم عثروا عليه قتيلاً داخل بناية تم تفجيرها، بيد أن الصورة له كان وهو يحتضن سلاحه، فيا له من فارس، فضلاً عن أن الإدارة الأمريكية تريد أن تشارك في هذا النصر، فكان الإعلان تارة أن بايدن تلقى احاطة بما جرى، وتارة أن أمريكا هي من توصلت إليه، ومن ثم هي من أرشدت إسرائيل عنه!
إنه الأداء الأمريكي، أو «الأمريكاني»، كما يقول العامة، في التسويق للذات، ألم تقل الدعاية الرائجة إنهم كانوا يعرفون الملابس الداخلية لصدام حسين، وفي الأخير كان وقوع الرجل في الأسر، ليس راجعاً إلى عظمة الأداء الأمريكي، فأسره كان بفعل الخيانة، وأن هزيمتهم ومعهم جيوش الكوكب واردة، كما جرى في أفغانستان، إنما لا بد من الاستمرار في الدعاية ذاتها عن قدراتهم الخارقة! وإن كانت هذه الراوية، تنسف رواية أن السنوار كان متحصناً في بناية وأنهم عثروا عليه «صدفة»، وإذا كانت الاستخبارات الأمريكية تعرف أين يخبئ القرد ابنه، فأين هي من الأسرى الإسرائيليين، وواقعة اغتيال السنوار تزيد الأمر ضبابية.
كانت الدعاية الإسرائيلية تقول إن السنوار هارب يحتمي في الأسرى، كدروع بشرية، على نحو يوحي بأن المانع من القبض عليه حتى لا يضر جيش الاحتلال بهم، لكن ها هو السنوار وحده، ومعه ثلاثة آخرون، حسب الاحتمال الراجح، وأن الوصول إليه لم يكن تخطيطاً أو تكتيكاً، فأين كان التخطيط والتكتيك على مدى عام مع وجود الاستخبارات الأمريكية والغربية وقدرتها الخارقة؟!
وإذا بالحقيقة تظهر من وراء المحاولات الفاشلة لصياغة سردية على المقاسين الأمريكي والإسرائيلي، فالسنوار لم يكن متولياً يوم الزحف، ولم يكن خواراً عند المواجهة، فقد وقف وكان أمامهم من المسافة صفر مواجهاً جسوراً، الأمر الذي انتقل به ليكون أسطورة، وملهماً للأجيال القادمة!
السمات الشخصية للسنوار
هذا الأسير المحرر في صفقة شاليط، يخرج من سجنه فيعطي المقاومة شكلاً آخر، فهو نحيف، خفيف، سريع الحركة، ترى ذكاءه في عينيه، ويتصرف بتلقائية، وفي المواجهة الأولى له قبل سنوات، بدا البعض ليس مستوعباً هذه الشخصية، وبدت شجاعته، لمن لا يعرفه، نوعاً من الاستعراض، وخطابه مختلفاً عن الشكل التقليدي لخطب قيادات المقاومة، إنه أقرب إلى الشعوبية منه إلى خطاب النخبة، فدخل معركة «طوفان الأقصى» ولا اتفاق عليه، وبدأت المعركة ولا خلاف حوله، فقد استوعب الناس هذه الشخصية الجديدة عليهم، ومن لا يعرفك يجهلك!
لن نذهب مع بعض المحللين الفضائيين محلقين في فضاء التحليل بالأماني، وبأنه إذا مات السنوار فالمقاومة ولادة، فمثل السنوار ليسوا كثيرين في دنيا الناس، وفي مراحل التاريخ المختلفة، إنهم من الندرة إلى درجة أنهم لا يمكن تعويضهم، وبدون إنكار، فالراحل هو عقل طوفان الأقصى وسلاحه، وقد حقق نتنياهو بعد عام كامل انتصاراً تكتيكيا، لأنه أعلن أنه من أهداف الحرب التخلص من السنوار، والتخلص كذلك من حركة حماس!
وإذ تخلص فعلاً من السنوار، فنسلم أنه حقق بالفعل انتصاراً في حربه، لكن الأيام علمتنا أن شعوره بالانتصار لا يستمر طولاً، فقد شعر بالانتصار بعد اغتيال حسن نصر الله، وأعلن أنه من سيعيد تشكيل خريطة المنطقة، فإذا بإيران تقصفه قصفاً مؤثراً أربكه فاختفى مذموماً مدحورا.
ولو تعلم شيئاً من المدرسة الأمريكية في تحقيق الانتصارات الوهمية، لأعلن في لحظة التأكد من النجاح في الوصول للسنوار واغتياله، تحقيق الحرب لأهدافها ومن ثم وقفها، ولو فعل لأقاموا له مولدا، وصار زعيماً إسرائيلياً منتصراً، أما عودة الأسرى فستكون تحصيلا حاصلا، لأن المقاومة ربطت ذلك بوقف إطلاق النار!
بيد أن الحماقة أعيت من يداويها، واستمر في حربه لتحقيق أهدافها كاملة، الأمر الذي سيجعل من انتصاره بمثابة سطرين في كتاب حياته، والباقي كله عذاب، حسب الفنان حسن الأسمر!
فالقتال مستمر، والحروب سجال، والسنوار الذي لن يعوض، لسماته الشخصية، وشجاعته النادرة، لا يقود العمليات مثل غالانت من غرفة عمليات الحرب، لكنه كمقاتل يسري عليه ما يسري على المقاتلين، فليس هناك قائد عسكري سينفخ في الصور بوقف القتال، وسوف تكون الرغبة في الثأر لمقتل عظيم كالسنوار ملهمة للمقاتلين، وقد تحول إلى أسطورة من الأساطير التي خلدها التاريخ، وغنى لها شاعر الربابة، والذي يستهل طلعته الغنائية مع كل شخصية منها: «أصل الحكاية ولد.. فارس ولا زيه»!
وهو المدخل الذي بدأ منه الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته في مدحه لخالد الإسلامبولي:
أصل الحكاية ولد/ فارس ولا زيه.
خد من بلال ندهته/ ومن النبي ضيه
ومن الحسين وقفته/ في محنته زيه!
مات مقبلاً غير مدبر
في الأخير كان لا بد أن يموت السنوار، فيسري عليه ما يسري على عموم الخلائق، لكنه مات أعظم ميتة، مقبلا غير مدبر، وفي المواجهة وليس هارباً في الأنفاق كما صوره القوم!
وعندما تأكد الناس من استشهاده، تراءى لي هذا الموتور، الذي اعتمدت القنوات التلفزيونية المصرية عليه في تشويه قادة المقاومة، من قناة إلى قناة، ومن قناة إبراهيم عيسى إلى عمرو أديب، وهو يتعامل كما لو كان قائدا لجهاز مخابراتي فيعلن أن قادة حماس وأولادهم في الخارج ولا أحد منهم مع اندلاع الحرب في غزة!
ها هو قائد المقاومة، وصاحب قرار طوفان الأقصى، يواجه، وعندما تخرج الروح لبارئها يحتضن سلاحه فلا نامت أعين الجبناء!
ونعود لـ»الجزيرة»، التي نجحت في أن يكون ما تنشره هو، فقط، الخبر، وما تهتم به هو، وحده، المهم، وهذا بسبب ثقة المشاهد فيها. وهي ثقة تأسست على مدى سنوات، من العمل الجاد والمهنية، ومنذ سنوات النشأة والتكوين!
ربح البيع يا سنوار!
وسوم: العدد 1099