الاحتلال بين دمار الجنوب وسخرية المقدسات… وحكاية طفلة غزة التي أبكت السماء!

في إحدى زوايا المعاناة التي لا تُحصى، وبين ركام الحصار وأشلاء العدوان، تبرز صورة تنطق بآلام شعب بأكمله: طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها تحمل بين يديها الصغيرتين قنينة غُسلَت على عجل، كانت في يومٍ مخصصّة لصابون غسل الصحون، لكنها اليوم احتوت الحليب القليل الذي جمعته لتُطعم أختها الرضيعة.

مشهد واحد كهذا لا يمكن أن يمرّ دون أن يُمزّق قلب أي إنسان. هذه الطفلة التي يفترض أن تحمل لعبتها، أو تركض خلف فراشة في حديقة، تجد نفسها بدلاً من ذلك في مواجهة جوع رضيع، حزن أم، وقسوة عالم أغلق عينيه عن معاناة غزة، تلك الأرض التي أنهكها العدوان وحاصرها الظلم حتى باتت صرخة الألم فيها عادية، ودمعة الأطفال فيها مألوفة.

ماذا يعرف الأطفال عن المعاناة؟ وماذا يعني أن تنحني طفلة لتحمل همّاً يثقل أكتاف الكبار؟ لكن في غزة، يكبر الصغار سريعاً، فلا طفولة هناك تُعاش كما يجب. الطفلة الصغيرة التي سعت بكل براءتها لإطعام أختها الرضيعة بحليب جمعته من بقايا الزجاجات، لا تدرك أن هذا الحليب ربما لا يكفي أو لا يصلح، لكنها تدرك جيدًا أن بكاء أختها الجائعة يمزّق قلبها الصغير، قلبها الذي تعلّم الحب قبل أن يفهم معنى الحقد الذي جعل هذه الحياة أشبه بالكابوس.

الحصار: السيف الذي يقطع كل شريان حياة

غزة تعيش أسيرة للحصار الإسرائيلي الذي يخنق أنفاسها. لا غذاء يكفي، ولا ماء نقياً، ولا كهرباء تسعف ليالي مظلمة طالت حتى بدا وكأنها لا تنتهي. ومع كل عدوان جديد، تُدمّر البيوت، ويُقتل الأبرياء، ويتحول آلاف الأطفال إلى لاجئين داخل أرضهم.

الطفلة الصغيرة التي أطعمت أختها من قنينة الصابون ليست حالة استثنائية، بل هي واحدة من آلاف الأطفال الذين تعصف بهم أزمات تتجاوز أعمارهم. خلف كل طفل في غزة حكاية، وخلف كل حكاية جريمة مكتملة الأركان؛ جريمة تواطأ فيها الحصار الظالم والصمت الدولي.

لعلّ ما هو أشدّ قسوة من الجوع، هو أن تجد العالم صامتًا أمام معاناتك. غزة، التي يُحرم فيها الأطفال من الغذاء والمأوى، لا تطلب المستحيل، بل تطلب حقها في العيش، تطلب أن يُسمح لها بأن ترى ضوء النهار بلا خوف، وأن تكبر الطفلة التي تحمل قنينة الحليب لتصبح أمًّا تمنح أبناءها حليبًا بلا خوف.

لكن العالم، الذي يملأ المنابر بالشعارات، يقف عاجزاً أمام مأساة غزة. بينما تُختصر إنسانية الطفلة الصغيرة في هذا المشهد البسيط، تختفي الإنسانية العالمية وراء جدران الصمت والخوف.

إن تلك الصغيرة التي تحاول إطعام أختها ليست مجرد ضحية؛ هي رمز لصمود شعب يواجه المستحيل كل يوم. في عينيها، اللتين تلمعان خوفًا وأملًا، رسالة عميقة للعالم: «رغم كل ما يحدث، نحن هنا، نحارب الجوع بالحب، والهدم بالصبر، واليأس بالأمل».

هذه الطفلة، التي تحمل في يديها الحليب، تحمل في قلبها شعلة من نور، نور لا يمكن للظلم أن يطفئه. هي غزة، بشعبها وأطفالها، تقف رغم كل شيء، تصرخ في وجه العالم: «انظروا إلينا، نحن أكثر من مجرد أرقام في الأخبار، نحن بشر، نستحق أن نعيش».

الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي

في خضمّ الحزن العميق الذي يغمر الجنوب اللبناني، وبينما تئنّ عشرات البلدات الحدودية تحت وطأة الدمار الذي حلّ بها، ينتشر كالنار في الهشيم مقطع فيديو أثار استياءً عارماً بين اللبنانيين، يظهر فيه جنود الاحتلال الإسرائيلي داخل بلدة دير ميماس، وبلحظات متعجرفة تعكس استهزاءً صارخاً بالكرامة الوطنية والإنسانية، يكشف هذا المشهد عن الوجه الحقيقي للاحتلال الذي لا يتردد في انتهاك القيم والمقدسات دون رادع أو وازع.

لم تقتصر الانتهاكات على الأضرار المادية التي لحقت بالبلدات الجنوبية، بل تجاوزتها لتصل إلى قلوب المؤمنين من مختلف الطوائف. مقطع آخر من الفيديو يظهر جنوداً إسرائيليين داخل كنيسة دير ميماس، وهم يسخرون بلا خجل من الطقوس الدينية. هذا المشهد يعيد إلى الأذهان صوراً مشابهة من غزة، حين وطأت أقدام جنود الاحتلال المساجد بفظاظة، مدنسين حرمة دور العبادة ومستهزئين برمزية الصلاة والمناجاة التي تعبر عن أسمى معاني الإيمان.

يدّعي هذا الجيش أنه «الأكثر أخلاقية في العالم»، لكنه في كل مرة يثبت أنه أبعد ما يكون عن الأخلاق، بل هو معتق بالوحشية والإجرام والتفنن في إيلام الأبرياء.

كيف يمكن لمؤسسة عسكرية أن تدّعي احترامها لحقوق الإنسان وهي مستمرة بقتل الآلاف وانتهاك حرمة المقدسات الدينية دون اعتبار لقداسة هذه الأماكن؟!

ما حدث في دير ميماس، ليس مجرد تصرف فردي أو زلة لسان من جنود متهورين، بل هو انعكاس لثقافة كاملة تتجذر في بنية الاحتلال، حيث تُستخدم دور العبادة، سواء كانت مساجد أو كنائس، كرموز للتحدي والإذلال. بالنسبة للاحتلال، الاعتداء على المقدسات ليس حادثة عابرة، بل استراتيجية محسوبة تهدف إلى بثّ رسائل متعددة: رسالة إلى الشعوب العربية مضمونها أن كرامتها مستباحة، ورسالة إلى العالم الغربي تبرز ازدواجية التعامل مع الأديان، حيث يتم التغاضي عن جرائم الاحتلال حتى حين تمسّ ديانة مناصريه الأوروبيين.

كيف يمكن لهذه القوة أن تدّعي احترامها للحرية الدينية وهي تدنس دور العبادة بوحشية، سواء كانت للمسلمين أو المسيحيين؟ كيف يمكنها أن تطالب العالم بتصديق رواياتها الأخلاقية، بينما تزدري رموز الإيمان والتعايش التي تشكل جوهر الحضارة الإنسانية؟

بعيداً عن السخرية الموجّهة للمقدسات، تتحدث الأرض عن وجعها. دمار يطول القرى، وتهجير قسري لأهالي الجنوب الذين أصبحوا شهوداً على مشهد يختلط فيه الدم بالتراب والدمار. كل بيت مدمر، كل شجرة مقتلعة، وكل كنيسة أو مسجد منتهك هو شاهد جديد على غطرسة الاحتلال.

البلدات الحدودية ليست مجرد حجارة وصخور، بل هي روايات أناس وذكريات أجيال. إن استباحة دير ميماس وغيرها من القرى الجنوبية ليست مجرد أفعال حربية، بل هي محاولة لطمس الهوية وتفكيك الروابط التي تجمع الإنسان بأرضه وديانته وتاريخه.

لطالما روّج الاحتلال الإسرائيلي لرواية «الأخلاقية»، التي يدّعي أنها تميزه عن باقي الجيوش. لكن هذه الرواية تنهار في كل مرة تتصدر فيها الأخبار صور الانتهاكات الوحشية التي تطال البشر والحجر. في غزة، قُتل الأطفال داخل منازلهم. في القدس، اعتُدي على المصلين في الأقصى. في الجنوب اللبناني، لم تسلم الكنائس من الانتهاك، ولم تسلم الأرض من الدمار. بيروت تحترق والبقاع يصرخ من الألم.

والجيش الإسرائيلي يدّعي أنه يخوض معاركه «وفقاً لأعلى المعايير الأخلاقية»؟!

وسوم: العدد 1104