ألوية العُملاء…
هنالك أعداء لشعب قطاع غزّة، إضافة لألوية جيش الاحتلال بمسمياتها المختلفة، وإضافة للولايات المتحدة المعادية عداء عقائدياً مستحكماً للشّعب الفلسطيني، وحلفائها الغربيين الذين ينافقون لمجرمي الحرب ويضعونهم فوق المحاسبة.
هنالك لواء من العملاء المسلّحين الذين لا ضمير ولا دين ولا إنسانية تردعهم. هؤلاء لم يأتوا صدفة، ولا هو حدث عابر في تاريخ الفلسطينيين، ولا غيرهم من شعوب قبَعت تحت الاحتلال الأجنبي.
قطّاع الطّرق الذين يسطون على شاحنات المساعدات الأممية. بعد معبر كرم أبو سالم ببضع مئات من الأمتار، وتحت أعين جنود الاحتلال وأجهزتهم الإلكترونية، يخرج من بين المزروعات والأبنية المدمّرة أشباح يعترضون الشّاحنات، يطلقون النار على إطاراتها، ويرغمون السائقين على الهبوط منها، ثم ينهبون السّلع التي ينتظرها مئات آلاف من الناس المحاصرين.
هذه العصابات تمارس النهب تحت سمع وبصر دبّابات ومسيّرات الاحتلال! هذا لواء من العملاء في خدمة الاحتلال.
العملاء يمنحون الاحتلال غطاءً قانونياً، على الأقل أمام أولئك الذين يقبلون شهادة الزور، بأنّ الاحتلال يقوم بواجبه إزاء المدنيين حسب القانون الدولي، ولكن لا سيطرة له على المواد بعد دخولها المعبر، ويروّج إعلام الاحتلال بفرحٍ غير خافٍ بأنّ المساعدات تُنهب من قبل الفلسطينيين أنفسهم، وأن عشائر مسلّحة تتصارع للسيطرة عليها.
قبل هذا رأينا مستوطنين يتصدّون لهذه المهمة وقبل وصول الشاحنات إلى المعبر، الآن أوكلت هذه المهمة للعملاء بعد خطوات من المعبر.
ادعى الاحتلال سابقاً أن “مخرّبي حماس” هم الذين يسرقون السّلع كي يوزعوها على أنفسهم وعلى أنصارهم، ولكن هذا الادعاء فشل، بعدما أفشل الاحتلال نفسه رقابة أممية على المساعدات، وغيّر لهجته وصار يشير بسعادة كبيرة إلى العصابات والحروب العشائرية.
هذا النهب أدى إلى نقصٍ مريع في السّلع الأساسية فارتفعت أسعارها إلى السّحاب، بينما الشَّعب المحاصر يعاني أساساً من الفقر وانخفاض قدرته الشّرائية، فما بالك بعد حرب إبادة وحصار طويل وترحيل قسري من منطقة “آمنة” إلى “أكثر أماناً” تنتظرهم فيها مذابح أبشع من سابقاتها.
العملاء يبيعون البضائع المنهوبة للتّجار، وغالباً هم أنفسهم ومنهم تجار يحتكرون السّوق ويتحكّمون بالأسعار. وبحسب ما يقول الصابرون المعذّبون، فإن الأسعار طارت ووصل الباذنجان إلى مرتبة الزعفران، وصار الطّحين بعيد المنال، وامتدّ الجوع من الشّمال إلى الجنوب.
يبدو أنّه لا غنى للناس عن الطّحين، وللطحين في الأدبيات الفلسطينية حيّزٌ لا بأس به، ممكن تحقيق دراسة كاملة عن الطحين والرّغيف والماء في أزمنة الحصار، وهي كثيرة.
لم يأت الاحتلال الصهيوني بجديد، فلكل احتلال عبر التاريخ وفي كل بقاع الأرض عملاء، ودائماً كانت مصائرهم الخزي والعار.
يستغل المحتل الصراعات الداخلية عند عدوّه، قد تكون على السُّلطة، وقد يكون طمعاً بالمال، وقد تكون بالابتزاز تحت ضغط إسقاط أخلاقي، أو مقابل خدمات أخرى قد تكون صغيرة وتافهة، وقد تكون كبيرة ومهمّة.
يجب الاعتراف أنّهم فالحون في هذا، ويمارسونه بدراسة، وليس عشوائياً، ويساعدهم بهذا ضعف الفئة المستهدفة، وفي أحيان كثيرة فساد كبارها، وحتى اعتماد بعضهم على الاحتلال في حماية سلطته.
أسسوا جيشاً كهذا في جنوب لبنان عام 1983، وبأعداد أكثر بكثير من عصابات قطاع غزة. ولكن نهاية ما عرف بجيش لبنان الجنوبي الذي بدأ بسعد حداد وانتهى بقيادة الجنرال أنطوان لحد ووصل عدده إلى ستة آلاف مقاتل، كانت الفرار مع قوات الاحتلال عام 2000 أمام ضربات المقاومة اللبنانية (ليس حزب الله فقط). وجرى استيعاب كثيرين منهم داخل إسرائيل، بعضهم بقي في لبنان وأعفي عنه وغُفر ذنبه، وبعضهم حوكم. كان لإسرائيل عملاء كثيرون في الضّفة الغربية، في الفترة الممتدة من 1967 حتى الانتفاضة الأولى عام 1987 حيث بدأ الشعب بمطاردتهم وأعدم بعضهم، فسمح الاحتلال لأعداد كبيرة منهم باللجوء إلى إسرائيل خلال الانتفاضة الأولى، وكانت مهمّة هؤلاء تخريب المجتمع من خلال الوشاية بالمقاومين والإسقاطات الأخلاقية، والسّمسرة وبيع الأراضي للمستوطنين.
وكان لإسرائيل عملاء كثيرون في سيناء خلال احتلالها منذ عام 1967 حتى الانسحاب منها عقب اتفاقات كامب ديفيد. وكان الانسحاب على مراحل بدأت عام 1979 وانتهت عام 1982. أقام الاحتلال لعملائه قرية في جنوب قطاع غزة في منطقة الدهنية، بين معبر كرم أبو سالم ومدينة رفح، وعرفها أهل قطاع غزة بـ “قرية العُملاء”، وهي من بدو سيناء المصريين، الذين كانوا قد تنازلوا للاحتلال عن أراض لهم في سيناء أقام عليها مستوطنات، ومنحهم الاحتلال مقابلها هذا المساحة من الأرض في جنوب القطاع.
اضطر الاحتلال إلى تفكيكيها وهدمها عام 2005 عندما قرّر شارون الانفصال عن قطاع غزة، وتم استيعاب بعض عائلاتهم داخل إسرائيل في المدن والقرى العربية والمدن المختلطة، وجرى توطين بعضهم مؤقّتاً ببطاقات خاصة في النقب.
عصابات النّهب في جنوب القطاع هي امتداد لمن سبقها من عملاء في القطاع وسيناء.
فئة أخرى تمارس دوراً خطيراً جداً، هم الصّرافون.
هؤلاء يمسكون المواطن من خناقه، فبعض الناس في القطاع لهم حسابات وأرصدة، أو تصلهم معونات مالية من أقرباء أو فاعلي خير من خارج قطاع غزة، تُحوّلُ إلى حسابهم البنكي مثل بنك فلسطين أو غيره ممّن عملوا في القطاع، وهي عملية معقدة تحتاج المرور عن طريق قريب من درجة أولى فقط، ولكن ولأنّ البنوك مقفلة ومدمّرة بما في ذلك الصّرافات الآلية، يلجأ الناس إلى الصّرافين، والصّراف ليس فقط من يتعامل مع السّيولة النقدية، بل هم تُجار يبيعون النقود مثل السّلع الأخرى في متاجرهم، يعني ممكن أن تدخل بقالة وتشتري سِلعة أو نقداً، وتدفع بالتحويل من حسابك إلى حساب التاجر، ويأخذ مقابل هذا عمولة. في بداية الحرب، كانت العمولة خمسة في المئة، ثم ارتفعت إلى عشرين إلى خمسة وعشرين، في هذه الأيام وصلت العمولة إلى ثلاثين في المئة. يخسر المواطن الذين ينتظر المعونة أو الرّاتب البسيط، إلى ثلاثين في المئة من قيمة نقوده، مقابل سلعة تضاعف ثمنها هي الأخرى عشرات المرات.
لا نستطيع القول بأن الصّرافين عملاء للاحتلال، ولكن ممكن القول إنهم في هذه المواقف قليلو حياء ودين، وأغنياء حرب، وهم بالأصل ليسوا فقراء، يضاعفون أرصدتهم في البنوك على حساب جوع الناس ومرضهم وحتى قتلهم.
هنالك أيضاً مواقف التجار، وكي لا نعمم فإن بعضهم حافظ على إنسانيته في التعامل، بينما كثيرون منهم يحتكرون السِّلع ويبيعونها بأسعار مرتفعة جداً، ويشكل بعضهم ذراعاً للعصابات المسلّحة إيّاها، التي تنهب المساعدات بقوة السّلاح وتحت رعاية الاحتلال.
رغم كلِّ هذا، إضافة إلى حرب الإبادة المتواصلة، فما قدّمه شعب قطاع غزة في أكثريته السّاحقة، هو أمثولة تاريخية للبشرية كلها في الصّمود الشّعبي والتكافل الاجتماعي، وهنالك ما لا يحصى من قصص الإيثار والتّضحيات التي ستُعرف وأخرى ستبقى في الخفاء، ستخلّد في تاريخ البشر وليس في تاريخ الفلسطينيين وحدهم.
وسوم: العدد 1104