سوريا التي في الأرض… وحارس المتاهة
الفرح الذي أصابنا أمس، في الثامن من ديسمبر/كانون أول، سوريين ومَن في حكمهم، مع نبأ هروب بشار الأسد من البلاد، لا يشبهه فرح، هذا من النوع الذي لا يأتيك إلا مرة واحدة في العمر، فرح من النوع الذي يجعلك تقفز، وتصرخ، وتبكي، وترغب في الركض، ولا تطيق مكاناً، تهتف للأحباء، لا لشيء محدد، إلا لتقول كم أنت فرِح وطائر وتريد أن تخرج من نفسك.
لا تعدم أشياء تشدّك إلى الأرض، إذ تتدافع الصور ومقاطع الفيديو من سائر السجون وفروع الأمن، أساساً أنت تنتظر مع المنتظرين هذه اللحظة قبل أيٍّ من غيرها، فالعذاب الذي يحمله هؤلاء هناك لا يشبهه سوى عذاب القبور.
سوريا موازية أنشِئت تحت الأرض، وقد أهدرت عليها أموال وجهود ما يكفي لسوريا مترفة فوق الأرض، لو أرادوا
أخيراً يتراكض هؤلاء ملهوفين، غير مصدقين، ذاهلين، شاحبين، يحاولون الركض، يبدون كمن يستهدي على طريقةٍ للمشي، بعضهم محمول على ظهر مُضعضع، أجساد أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.
متاهة صيدنايا
في الأثناء ستحفر عيناك مع كل دقة أو ضربة إزميل أو أداة تحاول فتح ثغرة في جدار أو باب سجن سميك، فتعجز حين يعجزون، لقد اعتنى الوحش الأسدي ببناء متاهة عظيمة الإحكام، وأخذ المفتاح معه. مضى يومان حتى الآن، والأقاويل تزيد عن أبواب وسجون سرية، ممتدة بضعة كيلومترات، لم يكن لدينا شك في ذلك، لقد انْبَنَتْ متاهةُ السجون في مخيلاتنا ومناماتنا خلال ستين عاماً.
نشاهد فيديو قيل إنه بيت ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع ومنافسه على التوحّش. تبدأ الصورة من مكتب فسيح ونظيف وبيانو وإضاءة ساطعة، لتنزل من ثم إلى أقبية وممرات وأنفاق وأبواب صلدة، تقول إذا كان البيت، أو مكتب العمل، على هذا النحو، فكيف تكون السجون!
علينا أن نصدق إذاً أن سوريا موازية أنشِئت تحت الأرض، وقد أهدرت عليها أموال وجهود ما يكفي لسوريا مترفة فوق الأرض، لو أرادوا.
مَشاهد ما زالت حتى الساعة تفسِد فرحتنا، لا وجوه الخارجين وكلماتهم وضياعهم، وما تبقى من ذاكرتهم وحسب، بل وكذلك البحث عن ناجين، فيما نرى لوعة الأهالي الذين يوزعون أسماء وصور ذويهم هنا وهناك.
نتحدث عن آلاف المعتقلين، وربما أكثر. هؤلاء، في غالبيتهم، سجناء سياسيون، أُخذوا بُعَيد اندلاع الثورة السورية العام 2011، وكان يمكن لرحيل النظام، حينذاك، أن يُجنّب البلاد عشرات الآلاف من المعتقلين، والذين قضوا تحت التعذيب، والمهجرين الذين يشكّلون نصف الشعب السوري، وتَشتُّت العائلات، وجيلا كاملا بلا تعليم، وتحويل البلد برمته إلى مصنع ضخم لتجارة الكبتاغون، إلى ما هنالك من أشياء دمرت في هذا البلد حتى باتت الاندفاعة الأخيرة، التي لاقت الثوار في مختلف المدن أقرب إلى الحتمية.
كان في الإمكان ألا يحدث ذلك كلّه، لكن عنجهية النظام ومؤيديه تأبى التنازل، قرّروا، حتى قبل اندلاع الثورة أنها مندسة، وعميلة للخارج، وطائفية، وإسلاموية، ومسلحة.. لم تقلع أعينهم الوقحة قوارير الماء وورود الشهداء وأغانيهم السلمية حتى النخاع،.. وإن حدث أن اعترفوا لاحقاً بسلميتها فلأن رئيسهم لم يترك لهم فرصة الإنكار، حين اعترف في خطاب رسمي أن أشهر الثورة الأولى كانت سلمية.
إذاً فقد قابلوا سلميتها بالتشكيك، لم يقبلوا حتى أن ترفع المطالب على «كرتونة» في مظاهرة، اتهموا الورد والماء والأغاني وأنكروها، لكنهم، لم يتورّعوا، حين سقط الساقط، أن يستقبلوا الثوار القادمين من الشمال بكامل سلاحهم وعتادهم بالأعلام الخضراء ومزاعم الانتماء (ذلك ليس سيئاً تماماً، هو أفضل من الاستمرار في المكابرة والإنكار).
القلق من المستقبل!
ليس هذا إحباطاً لأي فرح، بالعكس من حقنا أن نفرح قدر ما نستطيع، لكن لا أحد بإمكانه المكابرة على الجرح، جروح الذاكرة كما جروح الواقع. نفرح، ونضحك، ونجنّ، ثم يباغتنا وجهٌ طالعٌ من وراء أسوار صيدنايا وأقبيتها، فماذا بوسعنا حينئذ!
سنبذل جهدنا لاجتراح الفرح، سنستميت في التحايل على جروحنا وأحزاننا، على طعم السجن في الحلق، كوابيسنا، التي طاردتنا في غربتنا.
اتهموا الورد والماء والأغاني وأنكروها، ولم يتورّعوا، حين سقط الساقط، أن يستقبلوا الثوار القادمين من الشمال بكامل سلاحهم وعتادهم بالأعلام الخضراء ومزاعم الانتماء
من نِعم الحياة أن الإنسان قادر دائماً على أن يبدأ من جديد. ومن نعمها أيضاً أنه لا يبدأ تماماً من الصفر، ما يمكن أن تراه عبئاً على حياتك الجديدة، أو تركة ثقيلة، قد يكون هو بالذات التجربة الفريدة والخاصة بك أنت لا بسواك. خساراتك الهائلة ليست خسارة بالضرورة، ما دامت قد وقعت وانتهى الأمر لا بدّ من تحويلها إلى كنز للحياة.
أما القلقون على المستقبل، فأي قلق، يا قليلي العقل والضمير؟ أي قلق ومشاهد الماضي التي تتدفق حتى الساعة من سجون صيدنايا تقول لكم إن أي قادم سيكون أفضل من هذا.
لا هو بالتفاؤل الساذج، ولا بالأمل الأبله، فالنظام المتوحش والاستثنائي جعل بدمويته أي سيناريو محتمل أفضل من متاهة صيدنايا.
وسوم: العدد 1106