زعم ترامب أنه سيشتري قطاع غزة فمن البائع يا ترى ؟
من المعلوم أن الذي يُشْتَرى لا بد أن يكون مما يُعرض للبيع . ولما كان العِرْضُ والوطن لا يمكن عرضهما للبيع ،لأنهما رمز الكرامة التي لا يمكن تساوم ، فإن زعم الرئيس الأمريكي أنه سيشتري قطاع غزة، لا يخلو من أن يكون أحد أمرين: إما أنه محض هراء وهذيان يعكس حُمْقا أو أنه قول يمكن أن يُحمل على محمل الجِدّ ، وهذا يعني أن أحدا ما قد أعطاه صفقة يده ،علما بأن الصفقة بالتعبير العربي هي ضرب اليد عند البيع كعلامة على إنفاذه . وإذا ما صح الاحتمال الثاني، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو : من يا ترى ذا الذي أعطى ترامب صفقة يده ؟
والجواب عن هذا السؤال لا يخلو أيضا من أن يكون أحد أمرين إما الصافق هو رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي ربما يكون قد قبض الثمن مقدما خلال زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض ، وهو ليس بمالك لما صفق يده ، وما ينبغي له ذلك وما يستطيع إذ يمكنه التصرف فبما ليس بحيازته . وإذا ما أقدم على مثل هذه الصفقة المتهورة ، والمشبوهة والباطلة شرعا، وقانونا، وعرفا، وعادة ، فهو لص، معتد ،ساط من سوء حظه أن رام بيع ما لا يباع أصلا ،وهو وطن حيازته التاريخية والقانونية بيد الشعب الفلسطيني المتشبث به تشبثا راسخا لأنه رمز كرامته التي لا تقبل المساومة .
ونتنياهو إن كان قد أقدم على حماقة بيع الوهم لترامب ، فإن شأنه شأن من قال فيه الله تعالى : (( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه )) أو شأنه شأن الشاعر الذي يئس من بلوغ أمله فقال :
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الوُدّ مثل القابض الماء باليد
و ما عسى القابض على الماء باليد أن يعطي غيره منه . ومن كان هذا حاله فقد خاب صافقا ، وخاب مصفوقه ، وتبخرت الصفقة بينهما .
أما إذا كان صافق اليد طرف آخر لم يُكشف عن هويته لحد الآن ، ولا شك أنه سيكشف عنه ترامب إن كان جادا في وهم شرائه القطاع بعد حين ، خصوصا وأنه منذ توليه الرئاسة وهو يصرح باتخاذ قرارات متهورة وخطيرة بمنتهى الحماقة ، وهو يهدد ،ويتوعد ، ويأمر ، وينهى كأن العالم طوع يده ، ويلمح جهارا نهارا بالسطو على أوطان وأموال غيره خصوصا في الوطن العربي ، فلهذا من المرجح أن يفضح من يكون قد وعده بهذه الصفقة المزعومة ، والذي يكون قد أخذ أو سيأخذ ثمنها .
وإلى أن ينجلي أمر هذه الصفقة الوهمية مع أن المرجح أن ما ادعاه ترامب محض هراء وهذيان ، فإن الحقيقة الدامغة التي لا غبار عليها أن القطاع له شعبه الضاربة جذوره في أعماق التاريخ ، ولا تستطيع قوة في العالم مهما بلغ عتوها وطغيانها أن تزحزحه قيد أنملة عن أرضه .
ومن يدري ربما قد يكون الشراء الذي قصده ترامب هو شراء ذمم من لا ناقة لهم ولا جمل في موضوع قطاع غزة . ولئن صح هذا الاحتمال ـ ونعوذ بالله أن يصح ـ فإن الأمة العربية والإسلامية شعوبها وقادتها سيأثمون جميعا إثما عظيما لا يغفره الله تعالى ، ولا تغفره أجيالهم القادمة ، وسيكون وصمة عار على جبين الجميع ، وسبة ، ومعرة يسجلها التاريخ بمداد الخزي .
إن بأرض فلسطين مقدسات تقع مسؤولية صيانتها باعتبارها وديعة الله تعالى استودعها الأمة الإسلامية عموما ، و العربية خصوصا ، وحكمها حكم الوقف الذي أوقفه سبحانه ، وجعله أمانة عظمى في عنق كل مؤمن إلى قيام الساعة ، وهي أمانة سيسأل كل من تكون له يد من قريب أو بعيد في ضياعها .
ولما كان كل مسلم وعربي لا يقبل بتاتا أن يساوم في ضياع وطنه الأم ومسقط رأسه ، فإنه يلزمه ألا يقبل المساومة في ضياع أرض فلسطين التي هي وطنه الثاني .
وأخيرا نذكر الأمة الإسلامية والعربية شعوبها وقادتها بما يجب عليهم في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به القضية الفلسطينية ، وهذا الواجب تلخصه عبارة " لا للمساومة في استقلال فلسطين" التي يجب أن تقال بقوة وشجاعة لترامب ولغيره ، وتتبعها مواقف عملية شجاعة وثابتة تعيد لكل واهم صوابه ، و تجلسه دون قدره.
وإنه لا توجد اليوم فرصة أسنح من فرصة هذا الظرف بالذات كي تلملم الأمة الإسلامية والعربية شتات أمرها ، وفرقة صفها ، وانشغالها بالنزاعات فيما بينها انصياعا لمؤامرات أعدائها ومكائدهم التي انجلى منها ما انجلى ، وما خفي أخطر وأعظم . وصدق الله تعالى إذ يقول : (( لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ))، وبناء على هذا فإنه لا يتغير وضع أرض فلسطين من احتلال بغيض إلى استقلال تام غير منقوص حتى تغير الأمة الإسلامية والعربية موقف التفرج عليها الذي طبعت معه لعقود وفلسطين تئن وتشكو ، وتستنهض هممها كي تخليصها من نير يطوقها . عاشت فلسطين حرة أبية، وعاش أبطالها الأشاوس ،والموت والهوان لأعدائها.
وسوم: العدد 1115