حرية ، نعم ولكن
لن يختلف إثنان على أن الإرث الذي خلفه الأسدان في أرض الشام ،كان إرثا مروعا، من الدمار والقتل والاغتصاب والسرقة والفساد ، ولكن هذا الدمار لم ينقض برحيلهما المشؤوم ، موتا أو هربا ، فسوط الذل على جسد العباد لما يزيد عن نصف قرن ، لن تندمل آثاره بين عشية وضحاها.
والذل يحطم فضائل النفس البشرية ، ويفسد مقوماتها ، ويغرس فيها طباع العبيد . إنه يفرز استخذاء تحت سوط الجلاد ، وتمردا حين يرفع عنهم السوط ، وتبطرا حين يتاح لهم شيئا من النعمة والحرية .
وعندما حرر موسى قومه من عبودية فرعون ، لم يكن كاهلهم المكدود مؤهلا بعد لحمل عبء الحرية .
*قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين*
وهكذا يبدو أن هذه المدة الزمنية الطويلة، من شأنها أن تنبت جيلا جديدا سليما معافى من مخلفات الذل و من الندبات المترسخة في عمق الروح والوجدان ، أوبعنى آخر يستطيع أن يحمل مسؤولية الحرية بكل أبعادها.
والحرية شعور عظيم يعزز إنسانية المرء ، ويمنحه الشعور بالكرامة ، ويحفزه على العطاء والبناء والإبداع .
*ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البروالبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا *
و الأخذ بزمام القيادة لقوم عانوا طويلا من ذل الاستعباد في رحلة الحرية والكرامة هذه ، يلزمه شرطان هما وجهان لورقة واحدة ،ألا وهما القوة والأمانة.
*قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين*
إنها صفات القائد المؤتمن على مصالح الرعية، القادر على مسك زمامها ، المقتدر على الدفع بها نحو الخير والصلاح .
والحزم صفة أساسية من صفات القوة ،ولاسيما عند قيادة مجتمع يتعثر في أولى خطواته في درب الحرية
إنه مجتمع ناقه لايقوى على هضم لقمة الحرية ولو كانت سائغة ، فقد تأخذه نشوة النجاة من سوط الجلاد فيعلن التمرد ، أو تسكره هذه النعمة ، فينزلق الى مهاوي التبطروالانفلات.
إن مهمة القيادة في رحلة التيه صعبة ، بل في غاية الصعوبة .
والتيه في الحقيقة كعقاب، ليس إبادة لقوم أوتصورا يائسا لمصيرهم ، بل لعله إعادة تأهيل لهؤلاء القوم الناجين
*فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين *
هنالك البعض الذين استطاعوا أن ينأوا بأنفسهم عن مصيبة الذل بالصبر والاعتصام بحبل الله،
أنهم أعوان القيادة في رحلة النجاة وتحدياتها.
وفي سوريا قوم وإن برئت أياديهم من دماء الأبرياء، لكنهم ألفوا العيش في ظل الرشوة والمحسوبيات وتبرمجت عقولهم على البطالة المقنعة وانعدام الضمير المهني ، أو أن مداركهم وانسانيتهم قد اغتيلت تحت وطأة الكبتاجون وسواه .
هؤلاء لابد أن تقيد حريتهم بكثير من الحزم ، وإلا فإن البلاد ستنزلق إلى تمرد أهوج ، وتبطر لا تحمد عقباه .
لقد غزت السيارات الحديثة المفيمة شوارع حلب ، فأشاعت الفوضى ونشرت رفاهية جوفاء لا معنى لها في شوارع تئن من الجوع والفاقة وسوء التنظيم .
كما غصت شبكات التواصل بتمرد عقيم أبله لا يفهم من الحرية سوى أن ينعق بما لا يفقه .
ترى هل يستطيع السوريون أن يختزلوا رحلة التيه من أربعين عاما إلى أربعة أعوام ، حتى يستحقوا حرية دون قيود، وديمقراطية دون شروط ؟
عندما كنت طفلة أصبت بالحمى التيفية وقضيت أسابيع في ظل حمية قاسية . وما إن تماثلت للشفاء حتى تسللت خلسة إلى المطبخ ، فالتهمت ما لذ وطاب . في المساء جست والدتي جبيني الملتهب ، ثم همست لوالدي بقلق ، النكسة أخطر من المرض.
وسوم: العدد 1117