خمسة أيام في مكة المكرمة والمسجد الحرام : ( توثيقات، ومشاهدات، ووقفات )

أ . د. غيثان بن علي بن جريس

إنَّ حرمة وفضل مكة المكرمة والمسجد الحرام تعود إلى الوراء آلاف السنين، والباحث في الكتب السماوية والمصادر التاريخية والتراثية والحضارية يجد فيها آلاف الصفحات التي شرحت وفصلت المكانة العظيمة للمسجد الحرام خصوصًا ومكة المكرمة عمومًا. ونجد القرآن الكريم يذكر عشرات الآيات الدالة على هذين المكانين العظيمين الشريفين. قال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد:1ـــ 2]. وقال تعالى: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 3]. وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96]. وقال تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:196]. وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الإسراء:1]. وقال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]. وقال تعالى: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى:7]. وقال تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). [البقرة:150]. وقال تعالى:(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا) [آل عمران:97]. وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67]. وقال تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص:57]. وقال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ). [الحج:26]. وكُتب الحديث الشريف اشتملت على أحاديث كثيرة وصحيحة بينت مكانة المسجد الحرام ومكة المكرمة وفضلهما، وشرف منزلتهما. ومن ذلك ما رواه الترمذي في سننه عن خيرية مكة وفضلها وأنَّها أحبُّ البلاد إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، ففي حديث عبد الله بن عدي (رضي الله عنه) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما أخرجه قومه منها قال: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت". وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه. "ما أطيبك من بلد وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك". من يطلق العنان للبحث عن ذكر وأهمية وعلو منزلة المسجد الحرام ومكة المكرمة، فإنه سيجد آلاف المصادر والمراجع القديمة والحديثة العربية وغير العربية التي فصلت الحديث في هذا الجانب. وقد اطلعت خلال الخمسين عامًا الماضية على عشرات الرسائل الجامعية والبحوث العلمية الجيدة التي كتبت وأرخت لمكة والمسجد الحرام منذ زمن الرسول الكريم الخليل إبراهيم عليه السلام إلى وقتنا الحاضر، ولست في هذه الورقات معنيًّا بالحديث عن المراحل التاريخية والدينية والحضارية لهذين المكانين الشريفين، بل سوف أركز على بعض الصور التي قرأتها، وعرفتها، وشاهدتها من ثمانينيات القرن الهجري الماضي إلى الآن (1446هـ/2025م)، وأسرد بعضها في النقاط الآتية :

1- زرت مكة المكرمة والمسجد الحرام لمدة خمسة أيام في نهاية شهر شعبان عام (1446هـ/2025م)، وقضيت معظم هذه المدة متنقلًا ومتأملًا في المسجد الحرام وما يحيط به من أحياء ومرافق، ثم تجولت في عشرات الأحياء من مدينة مكة المكرمة، ومنها المشاعر المقدسة (منى، ومزدلفة، وعرفة) وغيرها. ورأيت وتأكد لي قدرة الله (عز وجل)، وفضله على هذا البلد الحرام. ومن يقرأ القرآن الكريم، وكتب التفاسيرالمعتبرة، والمؤلفات الرئيسية التي احتوت على سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرته، ثم سير خلفاء، وأمراء، ووزراء، وسلاطين، وعلماء، وقضاة، وشعراء المسلمين وغيرهم الذين تفانوا، وأشرفوا، وعاشوا، وكتبوا ووثقوا، وخدموا هذه الديار المقدسة المرعية والمحفوظة بقدرة رب العزة والجلال.

2- هناك توثيقات عربية وغيرها شرحت حياة أهل مكة المكرمة قبل الإسلام (السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والجغرافية، والدينية)، لكن الفضل العظيم حدث مع مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي فيها، ثم بدايات نزول الوحي عليه في مكة، وتاريخه بين قومه وغيرهم في المسجد الحرام والمشاعرالمقدسة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى (عليه أفضل الصلاة والسلام) بعد أن بنى مجتمعًا عربيًّا إسلاميًّا كبيرًا حمل راية الإسلام إلى بلدان الجزيرة العربية وخارجها. وجاء بعده الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) فساروا على نهجه (صلى الله عليه وسلم) وطبقوا ما جاء في القرآن والسنة النبوية بخصوص المدينة المقدسة (مكة المكرمة) والمسجد الحرام. وإذا توقفنا مع جهود خلفاء المسلمين، وأمرائهم، ووزرائهم والصالحين والصالحات خلال القرون الإسلامية المبكرة، والوسيطة، والحديثة وجدنا أعمالًا وجهودًا حضارية إيجابية كبيرة تجاه أهل الحرمين. وإذا حصرنا توثيقًاعلى البيت العتيق وما حوله من أرض مكة المكرمة فهناك تاريخ سياسي وحضاري واسع مكتوب في مئات الكتب والأعمال العلمية التوثيقية المطبوعة والمخطوطة.

3- أتذكر أنني قرأت وبحثت في حضارات دول الإسلام والمسلمين من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجريين، فوجدت أنَّ مكة المكرمة، والكعبة المشرفة كانت في مقدمة اهتمام جميع المسلمين رعاة ورعية. ولا تخلو تلك البلاد المقدسة من تواريخ ونشاطات وأحداث سياسية وحضارية إيجابية وسلبية، وكان سكان مكة المكرمة من المقيمين والوافدين لاعبين رئيسين في حياة الحجاج والمعتمرين وزوار بيت الله. ولا مجال للحديث عن هذا الجانب لأنَّه مدونًا ومنشورًا في آلاف الكتب والبحوث العلمية القديمة والحديثة.

4- اجتهدت في البحث عن تاريخ وحضارة بلاد مكة المكرمة بمفهومها الجغرافي والسكاني الواسع فلم أجد دراسات توثق حياة الأرض والناس في الأمكنة البعيدة عن محيط المسجد الحرام والمشاعر المقدسة (منى، ومزدلفة، وعرفة) لا قبل الإسلام، ولا بعده حتى العصر الحديث. وكل العلماء من جميع الفئات والتخصصات حصروا حديثهم وشروحاتهم وتوثيقاتهم على المسجد الحرام وما يحيط به من معالم جغرافية وأنشطة سكانية، وبعضهم دونوا جزئيات من تاريخ الحجاج في المشاعر المقدسة. وهذا النقص العلمي البحثي الخاص ببلاد مكة الواسعة مازال من الموضوعات الجديرة بالبحث العلمي الأثري الجاد، وإن تم ذلك فقد نطلع على صفحات من تاريخ وحضارة سكان هذه الديار عبرأطوار التاريخ، وآمل أن يتحقق ذلك من قبل مؤسسات علمية أكاديمية محلية جادة.

5- إنَّ المسجد الحرام ومكة المكرمة خلال العصر الحديث، أي من بعد القرن العاشر الهجري إلى أربعينيات القرن (14هـ/20م)، عاشت فصولًا تاريخية وحضارية متباينة بين السيء والحسن، والدول العربية والإسلامية داخل الجزيرة العربية وخارجها لعبت أدوارًا سياسية وحضارية متنوعة تجاه أرض الحرمين، وتحديدًا نحو الكعبة المشرفة وخدمة المسجد الحرام، ومتابعة أمورالمسلمين الذين يفدون إلى مكة المكرمة للزيارة والحج والعمرة. وكانت الدولة العثمانية في مقدمة تلك القوى السياسية ذات الصلة بأرض الحجاز وبخاصة الحرمين الشريفين. ويوجد الكثير من الدراسات العلمية المبكرة والمتأخرة التي بحثت ووثقت جزئيات سياسية وحضارية عن تلك الفترة، ومازال هناك آلاف الوثائق والمخطوطات

5العربية والعثمانية الجديرة بالترجمة أو البحث والدراسة والتحليل. والواجب على المؤرخين والباحثين الجادين أن يخدموا البلاد من خلال هذا التراث.

6- ظهر العصر السعودي الحديث، ودخلت مكة المكرمة تحت نفوذ الإمام عبدالعزيز آلسعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، وبدأ تاريخٌ حديثٌ ومعاصرٌومشرقٌ لأرض الحرمين ولعموم بلدان الدولة السعودية الحديثة. ومن يبحث عن المناقب والفضائل التي حظيت بها مكة والمسجد الحرام من أربعينيات القرن (14هـ/20م) إلى الآن (1446هـ/2025م) فسوف يجد مئات الكتب والبحوث والرسائل الجامعية التي أرخت لهذا العصر، ومازال هناك آلاف الوثائق، والصور الفوتوغرافية، والمذكرات الشخصية، والقصص الشفوية التي تشتمل على أصناف كثيرة من تاريخ البلاد والعباد في منطقة مكة المكرمة بشكل عام، والكعبة المشرفة والمسجد الحرام على وجه الخصوص. وتستحق مزيدًا من الجمع، والبحث، والتدقيق، والتحليل. وليس هدفي في هذه المقالة أن أتحدث عن التاريخ الذي صنعه الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في أثناء ضمالحجاز إلى مكة، وما بذل من جهود جبارة لتوطيد الأمن والاستقرار في الحواضر المقدسة، أوفي أي ناحية من بلاده الواسعة (المملكة العربية السعودية) خدمةً للحجاج وزوارالمسجدين الشريفين، ثم ما قام به أبناؤه الملوك (سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله، وسلمان) من خدمة ورعاية وتطوير وحفظ لأرض الحرمين والمشاعر المقدسة. والذي سوف أذكره بعض المشاهدات، والوقفات، والتوثيقات التي عرفتها أو رأيت بعضها خلال خمسة أيام قضيتها في مكة المكرمة من السبت إلى الأربعاء (23ــــ 27/8/1446 الموافق ــــ26/2/2025م)،وهي على النحو الآتي:

أــ قرأت وسمعت عن ممارسة الشعائر الدينية في المسجد الحرام، وأداء الحجاج والزوارعباداتهم في مكة المكرمة خلال العقود الأربعة الأولى من القرن (14هـ/20م)، فكانت تؤدى، لكن كان هناك العديد من الصعوبات السياسية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية وحتى الدينية، وعدم وجود قوة سياسية متزنة خالية من الأهواء والتيارات، وقد كان ذلك من أكبر المعوقات التي أوجدت حياة مضطربة وفوضى سائدة في أثناء أداء المناسك وعلى حياة المقيمين والوافدين إلى بيت الله. وفي هذه الظروف الصعبة ظهر الإمام عبد العزيز آل سعود، واستطاع خدمة الحرمين الشريفين وانقاذهما من الانفلات الأمني والسياسي، وبالتالي أصبحت دولته صاحبة النفوذ والإشراف الكامل على المسجد الحرام والأماكن المقدسة، وبدأت في إيجاد الحلول والأنظمة والقوانين الحديثة المتعددة والمتنوعة التي تصب في توفير الأمن وسير أمور الحجيج وزوار بيت الله بشكل آمن وسلس ومنظم. وهذه السياسة أخذت من الملك عبد العزيز والملوك سعود، وفيصل، وخالد حوالي ستين عامًا (1342ـ1402هـ/ 1923ـ1982م).

ب ــ كانت بداية التسعينيات من القرن الهجري الماضي، أول مرة أزور مكة المكرمة والمسجد الحرام، وأداء الحج، وقد رأيت الحرم وما حوله والمشاعرالمقدسة محكومة إداريًّا وتنظيميًّا بشكل جيد مما يجعل الحجاج والزوار والمصلين يؤدون عباداتهم بشكل طيب، إلَّا أنَّ التنمية العمرانية الحديثة مازالت في بداياتها، فهناك بعض التطوير والتوسعات في الحرم، والطرق والمواصلات، والمرافق الأخرى في المشاعر المقدسة، وأحياء ومناطق عديدة حول المسجد الحرام، وفي الوقت نفسه كان هناك

بعض الصعوبات التخطيطية والتنموية والعمرانية، أما ما عدا ذلك من أمن واستقرار وحكم عادل وواضح لسير الأمور فلا لبس فيه. ومن يعود إلى العديد من الدراسات المطبوعة والمنشورة ففيها تفصيلات عن جهود وعمارة ملوك آل سعود للمسجد الحرام والمسجد النبوي وبعض المشاعر والأمكنة المقدسة في مكة والمدينة خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي.

ج ـــ قاد الملوك أبناء الملك عبد العزيز (فهد، وعبد الله، وسلمان) البلاد خلال هذا القرن (15هـ/20ـ21م)، وفاض المال والخير في المملكة العربية السعودية، وسارت ومازالت عجلة البناء والتنمية تسير بشكل سريع وكبير، وفازت الأماكن المقدسة في مكة والمدينة بالنصيب الأوفر من رعاية واهتمام الملوك. ومن مطلع القرن الحالي (15هـ/20ـ21م) أتردد باستمرار على مكة المكرمة والمسجد الحرام، وأقرأ وأشاهد التوسعات العملاقة التي تحظى بها منطقة الحرم، والمشاعر المقدسة وعموم منطقة مكة المكرمة، وذهبت في أنحاء الحاضرة المكية فوجدتها توسعت في كل الاتجاهات، وقامت فيها عشرات الأحياء والمخططات العمرانية المزودة بجميع .

8الخدمات. أما المسجد الحرام وما يحيط به من حارات ومناطق فقد أُزيلت. ورُسمت الخرائط التي تجعل المسجد يستوعب عدة ملايين من الزوار ومازالت الخطط التنموية قائمة ومستمرة في إنجاز مشاريع عديدة ومتنوعة لخدمة ضيوف الرحمن، وقد نرى في المستقبل القريب أرض الحرم والمشاعر المقدسة رحبة وواسعة لأكثر من عشرة ملايين حاج ومعتمر.

د ــــ تجولت في أرجاء الحرم وشاهدت خدمات حكومية وأهلية منقطعة النظير من نظافة، وتوفير كل الإمكانات التي يحتاج الزائر والمصلي من فرش، ومصاحف، وماء للشرب، ودورات مياه، والآلاف من رجال الأمن، والحراسات،

والتنظيم، والتفتيش، والمراقبة، والمطوفين، والعربات اليدوية والتقنية لخدمة الحجاج والمعتمرين في السعي والطواف، والكاميرات، والأئمة والمؤذنين والمرشدين.أما خدمات المواصلات والاتصالات فذلك مجال كبير داخل الحرم وخارجه وفي عموم المدينة وحواضر الحجاز الكبرى المرتبطة بالعديد من محطات السيارات، والباصات، والقطارات، والمطارات. كذلك منطقة الحرم ومعظم المدينة مليئة بخدمات السكن المتنوعة، والمطاعم الصغيرة والكبيرة، والأسواق المتفاوتة في الأحجام، والأنواع، والمساحات، والأيدي العاملة.

هــ ـــ كانت زيارتي الأخيرة في نهاية شهر شعبان عام (1446هـ/2025م) وكانت مكة المكرمة عمومًا ومنطقة الحرم في حركة كبيرة ومتنوعة استعدادًا لشهر رمضان. ومن يدرس تاريخ الناس في مكة خلال هذا الشهر الكريم يجد الكثير من الاستعدادات والعادات والتقاليد التي عرفها المكيون منذ زمن بعيد، وأخرى تطورت أو ظهرت مع انتشار الأمن والاستقرار، وتوفر الأموال والخيرات، فالكثير من أصحاب التجارات وأهل الخير والباحثين عن الأجور يتسابقون في مشاريع تفطير الصائم، وتوزيع الصدقات والخدمات المتنوعة لزوار بيت الله. وهذه من العادات المذكورة والقديمة في أرض الحرمين، لكن في وقتنا الحاضر صارت بأعداد وكميات كثيرة جدًا ومنظمة، وذلك لما يتمتع به البلد (المملكة العربية السعودية) من ازدهار ورخاء وحزم وضبط سياسي وإداري. ومن يسير في أنحاء المدينة أو عموم البلاد السعودية يجد ويشاهد أثر دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، في قوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِوَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126]. فاللهم اجعلنا يا رب من المتقين الخائفين الوجلين، وأتم نعمة الأمن والإيمان والسلام على هذه البلاد (المملكة العربية السعودية) وعلى جميع بلدان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

وــــ إن الإنسان يتأمل في قدرة العزيز الجبار، الذي جعل هذا البلد الحرام مهوى قلوب المسلمين، وكيف لا يكون كذلك وفيه المسجد الحرام والكعبة المشرفة، قبلة الإسلام والمسلمين. وعندما تطالع الزوار والمعتمرين وضيوف البيت العظيم تراهم جاءوا إلى هذا المكان المبارك من جميع أقطار العالم، وتلاحظ اختلاف ألوانهم، وأحجامهم، ولغاتهم ولهجاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، لكنهم جميعهم يتوجهون إلى الرب العظيم يطلبون رحمته وعفوه ومغفرته. وعندما ينادي المؤذن للصلاة تراهم يهلون ويتوافدون من كل حدب وصوب (ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، ركبانًا ومشاة) يلبون دعوة المنادي إلى الصلاة، وتحقق دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم/37]. فالحمد لله والشكر، وصلى الله وسلم عليك يا سيدنا إبراهيم، ويا سيدنا محمد عليكما أفضل الصلاة والسلام. فلقد منَّ الله بكما على هذا البلد الحرام حتى صارت القبلة الرئيسية لكل إنسان يدين بدين الإسلام.

ز ــــ قابلت بعض زوار بيت الله من الإفريقيين، والأوربيين، والأمريكيين، والاستراليين، والصينيين، واليابانيين وغيرهم وحاولت أن أعرف شيئًا من انطباعاتهم وهم يترددون على الحرم، فوجدتهم جميعًا في غاية الفرح والسرور أن الله وفقهم وهداهم لاعتناق الإسلام، ثم رزقهم زيارة المسجد الحرام والصلاة فيه وأدائهم العمرة والسير إلى المدينة المنورة وزيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقالوا جميعًا أنهم سوف يؤدون فريضة الحج لهذا العام (1446هـ/2025م)، وقد ذكر لي بعضهم أنَّهم دخلوا الإسلام منذعشر وعشرين سنة من وقت اعتناقهم الإسلام. والجميل أنَّ بعضهم يدرسون العلوم الشرعية والعربية أو علوم أخرى في بعض الجامعات السعودية أو جامعة الأزهر. وقد جمعت منهم معلومات كثيرة عن تاريخ الإسلام والمسلمين في بلادهم، وسوف أنشرها في مقالة أو دراسة علمية أخرى.

ح ــ التقيت أيضًا بالعديد من الأخوات والإخوان العرب والمسلمين في أروقة المسجد الحرام، وتبادلت معهم الحديث، فوجدت معظمهم يثنون على حكومة المملكة العربية السعودية وعلى الموظفين العسكريين والمدنيين في المسجد الحرام لما يشاهدونه ويجدونه من خدمات ورعاية كبيرة لتوفير الأمن والراحة لزوار بيت الله الحرام من المصلين والمعتمرين. كما وجدت البعض منهم كانوا يحملون بعض الانطباعات الخاطئة التي سمعوها أو قرأوها أو شاهدوها على بعض وسائل التواصل الاجتماعي عن السعوديين وبخاصة أهل الحرمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، لكنهم بعد أن وصلوا إلى هذه البلاد وعاشوا فيها بعض الوقت، وتعاملوا وشاهدوا ما يجري في المسجد الحرام من أعمال وسلوكيات رسمية وأهلية جليلة وإيجابية تغيرت الصورة السلبية التي كانت عندهم من قبل. والواجب علينا نحن أبناء هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) أن نجتهد في أعمالنا الدينية والدنيوية حتى نكون قدوة صالحة لغيرنا من سكان العالم، وكيف لا نكون كذلك وأجدادنا السلف الصالح ومن جاء بعدهم من الصالحين هم من دخلوا الإسلام وتوارثوه، ثم بذلوا ما في وسعهم لحمله ونشره إلى غيرهم من شعوب الأرض.

ط ـــ قمت ببعض الجولات المحدودة في المسجد الحرام وما حوله، فوجدت العاملين في شتى المجالات الخدماتية التي لها علاقة بالنواحي الإرشادية والتوجيهية، والعلمية والتعليمية، والإشرافية، والأمنية، والترتيب والتنظيم والتنظيف، وتوفير اللوازم الضرورية لجميع الفئات من المصلين ومرتادي المسجد الحرام، والرعاية الاجتماعية والصحية تعمل على مدار الساعة. وأعداد العاملين في هذه القطاعات يقدرون بالآلاف، وتراهم جميعًا مقبلين على أعمالهم بحب وتفاني كبيرين. وتقابلت مع بعضهم من السعوديين والعرب والمسلمين، وسألتهم عن شعورهم وهم يعملون في هذه الميادين، فكانت ردودهم إيجابية، ويحمدون الله ــ عز وجل ــ أن يسر لهم العمل في هذه البقعة المباركة، وقال لي بعضهم أنهم يطلبون الله أن يدركهم الموت وهم يؤدون أعمالهم في خدمة الإسلام والمسلمين في المسجد الحرام.

ي ــــ أعلم أنَّ خمسة أيام قليلة لتوثيق ما يغض به المسجد الحرام وما حوله من مواضع مباركة لها تاريخ طويل قبل الإسلام وخلال القرون الإسلامية المبكرة والوسيطة، والحديثة، والمعاصرة. ومثل هذه الأرض المباركة تستحق أن يدون تاريخها في مؤلفات كثيرة، وإذا حصرنا الاهتمام على وضعها المعاصر فذلك أيضًا مجال كبير يُكتب عنه آلاف الصفحات لعظمة وتنوع الجهود الرسمية والأهلية المبذولة في رعاية وخدمة هذه الأماكن المقدسة. والحمد لله أنَّ حكومة المملكة العربية السعودية وشعبها وفقهم الله (عز وجل) يدركون ويستشعرون المنزلة الرفيعة التي نالوها بأن جعلهم حماةً وخُدامًا للحرمين الشريفين، فلم يقصروا أو يدخروا جهدًا في القيام بواجباتهم لخدمة البيت العتيق، ومسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، طالبين الأجر والثواب ممن اختارهم لهذه المهمة العظيمة الجليلة. وأسأل الله العلي القدير أن يحفظ هذه البلاد (المملكة العربية السعودية) حكومة وشعبًا لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يجعلها حصنًا حصينًا، وسدًا منيعًا، وخيرًا وبركةً لكل ما فيه خير لأمة الإسلام. وصلى الله وسلم على الرسول محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وسوم: العدد 1118