الحرية أساس ارتبطت ركائز الإسلام بها
هائل سعيد الصرمي
"إن الحرية غريزة فطرية تلتقي عندها المشاعر وتتجاوب معها العواطف وتتطلع إليها النفوس، وهي ليست شيئاً ثانوياً في حياة البشر بل حاجة ملحّة وضرورة ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادتهم وترجمة صادقة لأفكارهم. فبدون الحرية لا تتحقق الإرادة وعدم تحقيق الإرادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته، بل وإلقائه في هوة الضياع والموت البطيء، وهو ما لا ينسجم أبداً والغاية من وجود ه فبدون الحرية لا تتحقق ذاتية الإنسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره، وبدونها أيضاً لا تتحقق سعادته. فالإنسان الذي يُساق إلى غير ما يريد ويكره على غير ما يحب ويجرع من الأفكار والأنظمة ما لا يقبله ولا يستسيغه بحال لا يمكن أن يكون سعيداً، ثم إن السعادة لا تتم إلاّ بالأمن، ومن لا حرية له لا أمن له . فالحرية إذن منحة إلهية للإنسان الذي حباه الله تعالى بكل المقومات الأخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتية والتي تضمن له أداء دوره الريادي على الأرض في أحسن صورة."[1]
ينبغي أن يعيش الناس أحرارا ويموتون أحراراً,ودعوى الحرية التي لا تحقق ذلك نوع من استغلال مفهوم الحرية لتعبيد الناس لأغراض هابطة تفقدهم مقومات بقائهم الروحي لتحتل المادة كيانهم.
"تحتل الحرية مقاماً متقدماً جداً , في سلم الأولويات في الإسلام ، بل أكثر من ذلك لقد عد الإسلام الحرية بمثابة الحياة في حين عد الرق الذي هو ضد الحرية موتاً, وهذا ما نستفيده من تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء92 "أن القاتل حين أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل, لأن الرقيق ملحق بالأموات"[2]
ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس ,فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة»[3].
إن ما يسمى اليوم بالحرية إنما هو حصر لمفهوم الحرية الواسع الدلالة ,فهو جزء من كل, قد يؤدي دوراً إيجابيا إذ استخدم دون عنصرية , لكن الحال في الغرب غير ذلك, فهناك عنصرية طافحة على المستوى الغربي وعلى المستوى العالمي.
إن الحرية بمفهومها الغربي قاصرة حتى على دلالتها التي تعنيها,وإذ سلمنا بضآلة العنصرية في المجتمع الغربي فلن يختلف اثنان بأن العنصرية مستشرية بالنسبة لتعامل الغرب مع غيره من دول العالم. يقول عبد الله الفريجي:" لقد قامت الحضارة الغربية بإعادة الحرية لكافة أبناء الشعوب الأوروبية التي استعبدت, و لكنها حكمت بالعبودية على أغلب أبناء الجنس البشري"
إن حرية الإسلام بمفهومها الشامل بما فيها الدلالة التي تعنيها حرية اليوم لا تقتصر على العرب والمسلمين فحسب , ولكنها لجميع البشر بلا استثناء, والتاريخ يحدث عن ذلك. إن الحضارة التي سيسعد العالم معها هي الحضارة الإسلامية, ولن يجد السعادة في غيرها,وهذا بشهادة الغربيين أنفسهم.وقد ذكرنا سابقاً مقولة نائب رئيس بريطانيا في هذا الشأن." أما الديمقراطية الغربية فوهم وسراب في ظل الحضارة الغربية التي عجزت عن وضع الحلول لمشاكل الإنسان المعاصر,ويرجع الكثير من عناء الإنسان وشقائه في أقطار الأرض إلى القائمين على هذه البلدان التي تتبجح بالتقدم واحترام الإنسان والدفاع عن حقوقه, وهي غير ذلك تماماً. ولو افترضنا إنها تعترف بحقوق ما، فهي لا تعترف بها إلاّ للإنسان الغربي أو لفئة معينة داخل المجتمع الغربي ومن الزاوية المادية بالطبع. أما الإنسان الآخر فلا حق له ولا قيمة ولا يحظى بأهمية كبيرة في اهتماماتها. إن المطالبات الغربية لإقامة الديمقراطية في بعض الدول العربية والإسلامية وغيرها, هو من أجل تحقيق مكاسب سياسية,فكم من دولة أشعلت فيها الفتن؛لا بسبب الديمقراطية ولكن بسبب عدم نضوج الدول والشعوب,للتعامل معها؛وبسبب التلاعب الخفي من قبل الأجنبي , حيث يتدخل فيها فيحرف مسارها ويستفيد من التلاعب بها لصالحه فيصعد من يشاء إلى الحكم ليكون تابعاً له, هذا وقد يتحقق في الدول المتخلفة إن وجدت فيها الديمقراطية؛لأنها ليست محسوبة على أنها دول ديمقراطية فالديمقراطية فيها مازالت شكلية.والأنظمة تابعة للغرب سلفاً , لكنه يحدث في الدول المتقدمة , لقد سيطرت أمريكا على دول أربى بالديمقراطية حيث تدعم من ترى أنه يخدم سياستها ليصل إلى الحكم وعن طريق الديمقراطية ,ترث السلطة,وما فرنس وبريطاني عنا ببعيد إنها تريد أن تعبث في العالم باسم الديمقراطية وأحياناً باسم جرائم الحرب وأحياناً باسم الإرهاب وبإثارة الفتن بين الطوائف فالمهيمن إن لم تضبط تصرفاته القيم والأخلاق تحول إلا وحش كاسر لايرعوي عن شيء طالما يحقق له مصلحه هذا ما تفعله أمريكا اليوم وحلفاؤها.نعم يمكن الاستفادة من الديمقراطية فهي المخرج ولكن متى؟ في حالة تحريرها من اليد الأجنبية.إذا كانت الديمقراطية بمفهومها النظري لم تطبق بتجرد حتى في أمريكا نفسها فكيف ستطبق في العالم الثالث بواسطة أمريكا,لاشك أن ذلك ضحك على الذقون, فاللوبي اليهودي هو الذي يدير العملية الديمقراطية من خلف الستار بين الحزبين فكيف في غيرها من الدول ,إنها لعبة لمن يجيدها. "إن اللافتات التي تُرفع والشعارات التي تردد حول كرامة الإنسان وحريته قد أثبتت الوقائع والأحداث والمواقف السياسية والعسكرية كذبها وزيفها، وإنها لم تكن إلاّ من باب التضليل والخداع، فنحن نجد أن «الديمقراطية الحديثة أدت إلى تقسيم العالم اليوم إلى كتلتين: كتلة تجمع الدول الكبرى في العالم التي تجد من حقها إن تقرر مصير الإنسانيّة ، كتلة أخرى تجمع الدول الضعيفة والشعوب المتأخرة التي تعيش تحت رحمة الدول الكبرى"[4].
المسؤولية والحرية
لا يصح أن يتحمل المسؤولية إلا من كان متمتعاً بالحرية فلا مسؤولية بدون حرية إذ كيف تحاسب من ليس له قدرة على الاختيار فالاختيار حرية وعلية تترتب المسؤولية.
إن المسؤولية عند المسلم تأتي من المراقبة الداخلية لربه في كل تصرفاته أكان في خلوته أو في اجتماعه, فتعاملاته من منظومة قيمه ومعتقده وأخلاقه التي يتعبد الله بها ويدين.
"أما الحضارة الغربية فلأنها قامت على المادة , فليست القيود الأخلاقية والدينية بذات وزن في مفهوم هذه الحضارة , إن الحياة التي لا روح فيها حطمت الفضائل السامية في الإنسان ,وأنزلته إلى مستوى البهائم والحيوانات،فأصبح كائن مسلوب الاختيار مرغم على السير في خط معين لا يتعداه ولا يستطيع أن يتعداه ,وقد أسهمت مذاهب الاجتماع والاقتصاد والمدارس النفسية في تغذية هذه النظرة إلى الإنسان ,ولكن إذا جردنا الإنسان من حريته الداخلية ونفينا أن يكون شيئاً أكثر من هذه الكتلة المنظورة من المادة فماذا أبقينا من الإنسان, وإذا نفينا الحرية فقد نفينا المسؤولية , وحين ترتفع المسؤولية ترتفع الأخلاق, إذ كيف نفرض على إنسان لا سلطان له على ذاته سلوكاً معيناً، وما الأخلاق إلاّ مجالات تمارس فيها الحرية الإنسانيّة عملها... وقد تمثل رد الفعل على هذه الحتمية في وجودية سارتر الملحدة ، فالإنسان حسب النظرية الوجودية حرية مطلقة ودفعة لا يقيّدها قيد ولا يكبحها ضابط فلا إله ولا دين ولا أخلاق ثابتة، وهكذا يتمزق الإنسان الأوروبي بين الدعوات المتضادة دون أن يهتدي إلى السبيل القويم"[5].
إن العبودية لله وحده هي التي تمنح الفرد كامل الحرية .إنها تحرره من قيود الفكر والسياسة ومن القيود الاجتماعية والنفسية وغيرها, من القيود التي تحاول أن تفرضها عليه الأفكار والعقائد والتقاليد والقوى التي لا تمت إلى مبادئ الإسلام {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64
إن الإسلام قد يجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً, ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية الأمر. هذه النظرة العميقة تغذي الإنسان روحياً وأخلاقيا.ً فالإسلام يوسع من ميدان الإنسانيّة ليحبب القيم والأخلاق للمسلم, فتصبح جزءا من ذاته فيسعى لتحقيقها , أي: لتحقيق ذاته , ولا تعارض فقد كان من دعاء بعض السلف الصالح ( اللهم اجعل هواي تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم).
إن قيم الإسلام تمتزج في شعور معتنقيه فتثمر سعادة وطمأنينة ورضاً وحياة طيبة.
إن الإسلام شرع الشرائع والتصورات بما يتوافق مع فطرة الإنسان لا فيما يتصادم معها. صحيح أن معركته مع الشهوات والغرائز كبيرة لكن هذه المعركة مقصودها تهذيب هذه الطباع والغرائز وليس إنهائها وكبتها , إنها عملية متوازنة تجمع بين حق الروح والجسد دون أن يطغى جانب على جانب أخر, إنه يحفظ للجميع حقه بتوزن فريد, ولا يستطيع أحد أن يضع هذا النظام الدقيق المتوازن ,إلا الله الذي خلق البشرية , فهو وحده يعلم مداخل النفوس ومكامنها وما يصلح بين البشر من نظم وقيم وموازين, وكما أنه ثورة متوازنة في تهذيب النفوس والمواءمة بين الروح والجسد والعلاقات الإنسانية برمتها يتناول كافة مناحي الحياة المختلفة بتوازن عجيب لا اختلال فيه.
إذن فالإسلام يهدف بصورة رئيسية لإقامة العدالة والمساواة والحرية.إنه ثورة على كافة ألوان الاستبداد الاستعباد والاستغلال , ثورة على الجور والظلم والطغيان بكل ألوانه وأشكاله , إنه يدفع الإنسان للثورة على الواقع الفاسد وكافة أصناف العبودية، ويؤجج في روحه عوامل المقاومة والجهاد ضد كل ما هو ضار. فكل حركة تغير إسلامية ناضجة, قامت أو ستقوم دفعها هو إقامة العدل ودحر الظلم, وذلك بسبب الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط , والإيمان بعبودية الإنسان لله التي تحرره من كل عبودية
إن الإسلام دين الحرية , فالحرية التي يقدمها الإسلام للإنسانية حرية محددة واضحة وحرية مقيدة منضبطة موزونة. فالإسلام ضد الحرية المطلقة غير المقيدة، الحرية التي تتحول في آخر المطاف إلى تعدٍ على مصالح الآخرين وحقوقهم وتطلعاتهم.
إن الحرية المطلقة التي ينادي بها الغرب ,حرية مغلوطة لا تطبق في الواقع , لأنّ الحرية المطلقة دعوة للفوضى والعبث ,حيث تصطدم بحريات الآخرين, وإذا افترض تطبيقها ـ وهذا مستحيل ـ فإنها ستدمر النسيج الاجتماعي والمقوم الوجودي للإنسان ؛ بسب الفوضى ؛! لأنه يحق لمن له مطلق الحرية أن يقتل ويسرق ويعبث كما يشاء . وهذا غير مطبق حتى في الدول التي تدعو إليها , ويتمثل ذلك بالقوانين التي تشرعها هذه الدول لتقيد الحرية , والتشريع بحد ذاته تقييد يلغي مفهوم الحرية المطلقة , ثم بعد ذلك ينادون بحرية مطلقة, عجبا هل هي هرطقة لفظية أم أنهم جادون فيما لايطبقون؟!
الإسلام كفل الحرية حتى في اختيار الدين.لا إكراه في الدين بوابة الحرية الأولى.
لقد أعلن الإسلام الحرية للبشرية جمعاء في أخص خصائصه وهي العقيدة التي هي أساس اعتناقه وما دون ذلك فمن باب أولى. قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256 جاء الإسلام إلى الناس كافة , فهو رسالة عالمية خالدة للبشرية جمعاء , ولم يكن لفئة من الناس , ولا لأمة من الأمم , لذلك كان لزاماً على النبي الذي بعث به وعلى أتباعه من بعده , أن يبلغوه للناس كافة ؛ البلاغ المبين ولأنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الناس بسبب الإمبراطوريات الظالمة التي تُعبِّدُ الناس لها وتستبد بهم وتمنع هذا البلاغ الذي يجعلهم أحراراً أن يصل إليهم , كان لابد من أمرين ؛ الأول : إزالة الظلم عنهم لأن ذلك تكليف رباني من أدبيات الإسلام وتكاليفه على أتباعه فلابد أن يقوموا به.
الثاني إزاحة العوائق التي تمنع البلاغ المبين , وأول بلاغ للناس المحررين , قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.................}الكهف29 وهذا جزء من البلاغ الكبير ؛ بمعنى أن المسلمين بعد أن يرفعوا عن العباد الطغيان الظالم , عليهم أن يحسنوا للناس ويبلغونهم البلاغ المبين , فمن شاء في الدخول في الإسلام فله ومن لم يشاء فله الحق في الرفض واختيار ما يشاء ,وعلى المسلمين توفير كافة الحقوق والحماية له دون تميز وقد حكى الامام ابن المنذر رحمه الله تعالى على ذلك فقال :( وأجمعوا على أن ليس على أهل الذمة صدقات وأجمعوا على أن كل أرض أسلم عليها أهلها قبل أن يقهروا أن أموالهم لهم وأحكامهم أحكام المسلمين ) [6].
يقول سيد قطب:" في هذه الآية. كما يبدو إنها تؤكد على نفي الإكراه في الدعوة إلى الإسلام,وتمنع إجبار الناس على التدين بالإسلام. وما فائدة المسلم المجبر على دخول الإسلام؟ وهل بإمكان مسلم غير مقتنع بالإسلام أن يؤدي الدور الموكل إليه في الحياة، وأن يتعامل بصدق وإخلاص مع ذلك المبدأ الذي أقحم فيه إقحاما؟ أبداً...
إن الإسلام يرفض هذا النوع من التدين ويرفض أي عملية إكراه للناس على دخول الإسلام, ثم لم الحاجة إلى الإكراه وقد تبين الرشد من الغي, ووضح لهم الحق من الباطل ,والإيمان من الكفر؟! ولم الإكراه وبإمكان العقل السليم البعيد عن كافة المؤثرات الخارجية والداخلية أن يصل إلى القناعة بالإسلام كفكر إلهي عظيم متلائم مع الفطرة ونظام الكون بأسره، ومعبّر عن الحاجة الإنسانيّة ؟«وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه , وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني ـ التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلّة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرّمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتّى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها"[7]
ومن هنا لا مجال لشبهة القول أن الإسلام انتشر بالسيف[8]. فإذا كان المقصود الذي ذكر فلا غبار فيه , أما أن ينسب للإسلام إكراه الناس في الدخول فيه بالسيف فهذا افتراء كبير , لا ينطلي إلا على أصحاب العقول المريضة أو الغبية التي تجهل الإسلام ؛ لأن تاريخ الإسلام ناصع بالحقيقة مثل سطوع الشمس ,فالإسلام بريء من ذلك الافتراء براءة الذئب من دم يوسف. فقد كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم كافر يهوديا ولم يكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام
صحيح البخاري - (ج 1 / ص 455) 1290 -
عن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه و سلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له ( أسلم ) . فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم صلى الله عليه و سلم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول ( الحمد لله الذي أنقذه من النار )
يقول سيد قطب رحمه الله في هذا الشأن. «لم يحمل الإسلام السيف ليكره الناس على اعتناق عقيدته، ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه إنما جاهد ليقيم نظاماً آمناً يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعاً، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته وكانت قوّة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، أو اطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم، وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته، ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه إن يوحي للمسلمين! لابدّ للإسلام من نظام ولابدّ للإسلام من قوّة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعتة التي لا يقوم بدونها. إسلام يعيش ويقود. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا، وعلى نظم الأرض جميعا، وعلى مذاهب الأرض جميعا...»[9].
مواقف الإسلام في الحرية مع غير المسلمين
كانت عهود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه للذميين دليلاً قاطعًا على كفالة الحرية الشاملة لهم وخصوصًا حرية الاعتقاد، كما نرى في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصارى نجران: ذلك العهد الذي أكده ووثقه خلفاؤه الأربعة، فنرى في عهد أبي بكر لهم ينص العهد على أنه "أجارهم بجوار الله وذمة محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنفسهم وأرضهم وثلتهم ـ أي جماعتهم ـ وأموالهم وحاشيتهم، وعبادتهم وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم ورهبانهم وبيعهم ."
و إن كان في هذه القصة مقال ففي وقعة الخندق عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقية إستراتيجية في الحرب مع كفار العرب .
و كان سوق المدينة التجاري لهم جميعا صحيح البخاري - (ج 2 / ص 729) 1962 عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه در ن حديد و عاشوا في المدينة جميعا . عا م
التاريخ يتكلم
حينما فتح المسلمون إيليا (القدس) كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ كتابًا سنة 15 هـ جاء فيه أنه " أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم،وأنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود."وعقد الأمان أو عقد الذمة يوجب على المسلمين حماية الذميين من العدوان الخارجي، ومن الظلم الداخلي، وحماية أموالهم، وتأمينهم عند العجز والشيخوخة والفقر، وكفالة حرية التدين والاعتقاد والعمل والكسب.
يقول ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالقراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم".
موقف شيخ الإسلام ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ المسلم ليكلم "قائدهم" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: "لا نرضى إلابإطلاق جميع الأسرى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا،. فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.
فاختلاف العقيدة لايمنع المسلمين من رعايتهم للذميين والوفاء بعهودهم معهم، وحمايتهم مما يحمون منه أنفسهم، حتى عاش الذميون يتمتعون بالعدل والحرية شأنهم شأن المسلمين، بل كان لبعضهم في بعض العهود مراكز ومناصب ونفوذ وثروات تفوق ما كان عليه كثير من المسلمين.
الحرية الاجتماعية
من حق كل مجتمع ـ وقد يتمثل بالدولة والأمة ـ تقرير المصير وحق السيادة وحق تنظيم نفسه واستغلال خيراته ومقدراته المادية والمعنوية. و كان كل هذا لليهود و لغيرهم من سكان المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم , ولا يجوز بحال التدخل في شأنه أو وضع محددات نظامه السياسي أو الأخلاقي أو الاقتصادي,ولا مرتكزات علاقاته بغيره ولا يجوز تهديده ولا الاعتداء عليه , ولا إرهابه أو ممارسة الضغوط عليه لحرف مسار توجهه واختياره تحت أي مبرر من المبررات؛ لأن ذلك من لوازم حريته. ومقومات حقوقه. واليوم تمارس الدول العظمى المتقدمة كل ألون الإرهاب والتعسف لنزع هذه الحقوق بل ويحتلون الأوطان ويسفكون الدماء ، ويسرقون وينهبون أمول الناس جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع العالم بأكمله. وما العراق وفلسطين إلا نموذج مما يحملون هؤلاء القوم المتوحشون من حقد دفين في نفوسهم على شعوب العالم الثالث ،وأخر مجزرة تبين حقيقة هذا النظام العالمي المتقدم المتمثل بأمريكا وأربا وإسرائيل هي مجزرة غزة في معركة بين اليهود وحكومة حماس التي فضحت الوجه الحقيقي لهذه الأنظمة المتسترة بشعارات الديمقراطية والحرية وغيرها لقد قتلت وجرحت إسرائيل أكثر من ستة ألف إنسان أكثرهم أطفال ونساء ودمرت خمسين ألف مبنى في هذا القطاع الصغير أي استخدمت الأسلحة المحرمة على شعب اعزل . أي وحشية هذه التي يمارسونها أدعياء الحظارة هذه الأنظمة لا تمت للحضارة بصلة لقد انهار كل مقوم أخلاقي لديها .
بعد أن يسلبون الشعوب حريتها فكيف لها أن تبدع وتتطور وتتقدم وإن كان تراثها ناصع البياض , لا يجديها ولا يغني عنها شيئاً , مادام الاستبداد من الأنظمة العميلة ومن الخارج الطامع جاثم فوق صدرها.إذن فالتحرر من الهيمنة المستبدة في الداخل والخارج أولاً والتطور والإبداع ثانياً."[10]
" فالإنسان الذي لا يملك الحرية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدم.
وإن من أخطر أسباب تخلف عالمنا هو
مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حريته المشروعة، الحرية المسؤولة التي لا تنفك عن
الالتزام بالمسؤولية.ولكي تنهض الأمة، فهي بحاجة إلى الحرية، بحاجة إلى حرية الفكر،
بحاجة إلى أن يحرر العقل من الإرهاب الفكري، ويفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق،
وليفكر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار فإن الإنسان
المكبوت الحرية هو إنسان مشلول القدرة والإرادة، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته
وإمكاناته.إن محنة شعوب العالم الإسلامي اليوم هي مصادرة حرية الإنسان، وسحق
إرادته، وتسليط الاستعباد والكبت الفكري والسياسي عليه.إن أصحاب الفكر ودعاة
الإصلاح يعانون من الإقصاء السياسي وحالات التعذيب الوحشي والزج في السجون والهجرات
والتشريد.لقد انطلق الإسلام مع الإنسان الحر المختار، فوهبه حرية الفكر، وحرية
السلوك، وحرية التملك وحرية العمل، والحرية السياسية، غير أنه قرن الحرية بالالتزام
والمسؤولية.إن اخطر ما يواجهه الإنسان المسلم اليوم هو الإرهاب السياسي الذي صادر
إرادته وحريته. فشعوب العالم الإسلامي لا تملك مصيرها السياسي، ولا تملك حق إبداء
الرأي أو مناقشة السياسة القائمة، والمشاركة في التخطيط لشؤونها ومصالحها.
والإسلام أقام الحياة السياسية على أساس الحرية السياسية، أقامها على أساس الشورى
والتشاور ومشاركة الأمة ورقابتها للسلطة، وثبت هذا المبدأ في كتابه الكريم بقوله:.(وأمرهم
شورى بينهم) الشورى/ 38 (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) التوبة/
71.ومن هنا انطلق في إعطاء الأمة حق اختيار حكامها وولاة أمورها وفق مواصفات مبدئية
محددة، ومنحها المحاسبة والرقابة بسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[11].
[1] الحلول المستوردة وكيف جنت على امتنا. الدكتور يوسف القرضاوي، ص: 210.
[2] مقال لحيدر حسين عبد السادة
[3] الأضواء، العدد 2، مقالة للصدر
[4] نظرية السياسة والحكم في الإسلام محمد حسين الطباطبائي،
[5] راجع رسالتنا، ص 91.
[6] الإجماع لابن المنذر - (ج 1 / ص 13)
[7] انظر ظلال القرآن، ج1، سيد قطب، ص 425 ـ 426.
[8] اكبر دليل على أن الإسلام لم ينتشر بالإكراه أو السيف أن المناطق التي فتحها الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن يترضون على الصحابة الذين فتحوها و يسمون أولادهم بأسمائهم بعكس المناطق التي فتحها الاستعمار فيعد يوم دخولهم إليها أنكد يوم في تاريخ الشعوب ويجعلون يوم خروجهم يوم عيد ونصر وتحرر !!!!!
[9] في ظلال القرآن، ج1، ص 432 ـ 433.
[10]إنظرمقال عبدالرحمن العلوي الإسلام مرتكزاتها ومعالمها
[11] مبادئ النهوض الاجتماعي / مطبوعات البلاغ