شرفاء رابعة

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

ما السرّ في أن تكون بعض الأمكنة على الأرض مقدسة؟ ولِمَ شُدّت الرّحال إلى مساجد مخصوصة؟ قد لا نعلم على وجه اليقين حكمة ذلك. لكن المؤكد أن ليس للمكان قيمة في ذاته، وليس له من الخصوص إلا بقدر ما يستمدّ ممن يَعمُره، ولولا أن الأمر كذلك ما كانت حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة. يملأ الإنسان المكان بالخير فيشرف المكان، ويسفل فلا يكون للمكان شأن، أو يكون مكانَ شؤم يُتقى كوادي ثمود.

يشاء القدر أن يصير ميدان رابعة العدوية منارَ العرب، ونبض المسلمين، وتبكيتا للأعداء. فهو عند الأولين مهوى الأفئدة، ومَنبت الآمال، إليه تشرئب الأعناق، وتهفو النفوس. وعند الآخِرين مظِنة السوء، وداعي الحنق والضغينة. يريده الأولون سبيل الشريعة، ومنطلق التحرر، وطريق النهضة. وترتعد فرائص العدى خشية الانعتاق، وتهتز أركان البغي لسماع الله أكبر. كيف ومَن كبّره يَصغر في عينيه كل ما سواه؟ فليت شعري بمَ ملأ أهل رابعةَ رابعة؟

في رابعة تسمع تلاوة القرآن، وتشهد عَقد القِران. وفي الميدان قيام وصيام، وتهجُّد وذِكر، وألسنة تجأر بالدعاء، ورباطٌ وعزم. ترى قُبيل أذان المغرب امرأة تجول حاملة طبقَ تمر تمدّه إلى المرابطين، وباليد الأخرى وليدُها يتنسّم أرَج الحرية. وفي رابعة يجيء المرأةَ المخاضُ وتأبى مغادرة الميدان، وما هو إلا صبر ساعة ويُسمَع استهلالُ "المعتصم". وفي رابعة ترى الرجل متوسِّدا رِجله الاصطناعية على الرصيف غير متبرّم ولا ضَجِر. وترى الكفيف بين الصفوف مُكثِرا سوادَ الأحرار. وفي رابعة دون سواها ترى هَمّ قوم أن يرشّوا قوما بماء بارد علّه يخفف عنهم حرّ صيف القاهرة. وفي رابعة ترى الفتى اليَفَع والشيخ المسنّ يعترضان مدرّعات الطاغية بصدر عارٍ يبغي حماية مَن خلفه. وفي الميدان ترى شبابا وقفوا على المداخل ليلا ونهارا يؤَمّنون مَن بداخله. وفي رابعة يقف الأحرار على بطون خاوية والشمس في كبد السماء مردّدين هتاف الحرية والكرامة. وفي رابعة يكون لرمضان معنى مخصوص، ويصير الصبر رجلا يغدو ويروح، والإيمان موقفا لا كلاما. وفي رابعة ترى الشيخ يزاحم الشاب واقفا في رباط الساعات الطّوال. وترى أعيُنا تدفع النوم ابتغاء وقفة عِزّ هي لله. وفي رابعة يكتفي رجال بلقيمات طمعا في شبع في دار المقامة. وفي رابعة قوم رحماء بينهم، حركاتهم وسكناتهم لله، ولذلك تُغيض رابعة مَن نكثوا العهود، وخرجوا على الحاكم، وفرّقوا الجماعة، وتعلّقت قلوبهم بدنيا زائلة، وودّوا لو نقضوا عرى الإسلام عروة عروة. 

ليس لرابعةَ المكان خصوص أو شرف، وإنما هو إنسان رابعة، هو ذلك الإنسان مَن شرّف المكانَ وجذب القلوب إليه والأبصار. أوَليس قد ترك سيد الخلق أحبّ البلاد إليه وأمدّ المكانَ مِن شرفه فإذا يثرب تغدو طِيبةَ المنورة؟ وهل خرج موسى بقومه من مكان إلى مكان إلا ليكون الإنسان أكرم وأشرف؟ وكذلك شرفت سفينة نوح ولم يعصم ابنَه مكانٌ ولو كان جبلا كالطَّود الأشم. هُم أهل رابعة، ولولا أهلها لكان الميدان نِسيا مَنسيا.

فهنيئا لرابعة أهلها، وهنيئا للمرابطين عزّتهم وصمودهم!