معركة دمشق تحسم في القاهرة

د. محمد أحمد الزعبي

د. محمد أحمد الزعبي

كنت قد كتبت هذه المقالة المتواضعة في يناير 2012 ، بيد

أنني ولأسباب مختلفة لم أنشرها . إن مستجدات ماجرى

ويجري في مصر وفي سورية هذه الأيام ، كان وراء رغبتي

في أن يقرأ بعض المهتمين رأياً مختلفاً .

1. ينتمي كل من الحراكين الشعبيين في كل من القاهرة ودمشق إلى مابات معروفاً بـ " الربيع العربي " .

إن هذه التسمية لاتخلو من مضمون واقعي ، تلتقي على صعيده الظواهر الاجتماعية مع الظواهر الطبيعية من حيث أسبقية فصل الشتاء البارد والقاسي ، وأحياناً القاتل ، لفصل الربيع من جهة ، ومن حيث انطواء فصل الشتاء ، على المطر ، أي الماء الذي قال فيه تعالى ، " وجعلنا من الماء كل شيء حي " من جهة ثانية ، تماماً كما هي الحال في المجتمعات ، حيث تنضج ثورات الشعوب في رحم أنظمة الاستبداد والفساد ( أنظمة الزمهرير ) على قاعدة : النقيض يفرز النقيض .

2. إن الطرفين الأساسيين المتناقضين في كل من سورية ومصر هما : الشعب من جهة ، والنظام المستبد الفاسد من جهة أخرى . إن استبداد وفساد أكثر من ثلاثة عقود من حكم حسني مبارك في مصر ، وأكثر من أربعة عقود من حكم عائلة الأسد في سورية ، كانت كافية ، بما هي عقود مرة وقاسية على الشعب في كلا البلدين ، لكي ينبلج صبح القاهرة في 25 يناير 2011 ، وصبح دمشق في 18 آذار 2011 ، عن ربيع عربي جديد ، بغض النظر عن غلبة اللون الأحمر على واحاته الديموقراطية في هذه المرحلة الانتقالية من عمر هذا الربيع.

3. تقوم الأنظمة السياسية في العالم الثالث عامة ، والوطن العربي خاصة ، على عمود فقري عادة مايتكون من طبقة / فئة مهيمنة عليا ، تعتمد على عصبية ما ( إثنية ، دينية ، طبقية ، قبلية ، طائفية ) وعلى عدد من المثقفين المدنيين والعسكريين والدينيين ( مثقفي وعلماء السلطان ) في الحفاظ على السلطة ، وفي إدارة شؤون الحكم . وهي ( الأنظمة المعنية ) بحكم ارتكازها على هذه الأعمدة الثلاثة المتناقضة والنقيضة ــ غالباً ــ لمبدأ المواطنة المتساوية والديموقراطية وصندوق الاقتراع ، لاتجد أمامها إلاً أن تحيط نفسها بحزم/ أسيجة  من الأزلام والمحاسيب والأقارب والمرتزقة من المدنيين والعسكريين ، وبالتالي الانغماس الكامل ( الظاهر والباطن ) في كل من الفساد والاستبداد . إن أنظمة الفساد والاستبداد ، إنما تجسد هنا ، فصل الزمهرير الذي تحمل قساوته في رحمها ، نقيضها الموضوعي ، ألا وهو " فصل الربيع " ، فصل وصول انظمة الاستبداد والفساد ، إلى نهايتها المحتومة ، مزبلة التاريخ . 

4. إننا إذن في البلدان النامية عامة ، وفي وطننا العربي خاصة ، أمام هرم إجتماعي سياسي ، يقبع في قمته الضيقة ، حاكم محاط بعدد من الأسيجة الأمنية ، من الذين  بات يطلق عليهم في مصر " البلطجية " وفي سورية " الشبيحة " . بينما تقبع في قاعدته العريضه جماهير الكادحين والمستضعفين والمحرومين .

وإذا كان بعض " المثقفين " في كلا البلدين ، بمن فيهم بعض " رجال الدين " ، لا يحمل عصا البلطجة أو الشبيحة ، إلاّ أنه يحمل عملياً قلم الحبرو/ أوالرصاص الذي يمكن أن يخدم ذلك الحاكم ، أكثر من عصا البلاطجة أو الشبيحة .

إن تاريخ حركة التحرر الوطني في كافة المجتمعات التي تعاني من آفتي الاستبداد والفساد ، إنما يشير إلى أن التناقض بين قمة الهرم الاجتماعي الضيقة ، وقاعدته العريضة ، هو " التناقض الرئيسي " ، بينما  يعتبر التناقض بين الفئات التي تتموضع على السفوح المتوسطة لهذا الهرم ، وكذلك بينها وبين من فوقها ومن تحتها ،" تناقضاً ثانوياً " ، وهو مانراه ونسمعه ونلمسه ، في موقف كل من " هيئة التنسيق " في سورية ، و " جبهة الإنقاذ " في مصر ، هذه الأيام .

 هذا ويشيرالواقع الملموس لمكونات مثلث الهرم الإجتماعي ( القمة ، القاعدة ، السفوح الوسطى ) في الوطن العربي عامة ، وفي بلدان الربيع العربي خاصة ، إلى التداخل والتشابك بين هذه المكونات الثلاثة ، وذلك نتيجة للتداخل بين الإنقسامين : العمودي (القبلي ، الديني ، الطائفي ، الجهوي ،القومي ) ، والأفقي ( الطبقي ) في هذا الهرم الإجتماعي ، ولذلك فإننا نجد الكثيرين من فئة " الأفندية " من ذوي الياقات البيضاء والصفراء ، وأيضاً من المعممين ( رجال الدين ) ، ممن يدعون الإنتماء إلى "الربيع العربي" ( الميادين )  يقولون شيئاً ، ويفعلون شيئاً آخر، دون أن يرف لهم جفن !! . ترى هل يمكن ان نطلق على هذا الصراع " صراع القلم مع المنجل ، صراع الأفندية مع البسطاء ؟ " لست أدري .

5. تمثل فئة "الشباب " ( بالمعنى العمري ) حالة خاصة في مجتمعات العالم الثالث ، ومنها مجتمعنا العربي من حيث أن أغلب المدارس والجامعات هي مؤسسات رسمية تابعة للدولة ، لأن الأنظمة الديكتاتورية ، تحاول أن تمسك بيدها كل مفاصل المجتمع ، ومنه مفصل التعليم ، ولهذا كان التعليم الحكومي ، إما مجانياً أو بأقساط مقبولة نسبياً ، الأمر الذي معه يمكن للمرء أن يجد على مقعد دراسي واحد ثلاثة تلاميذ ، أو ثلاثة طلبة ينتمون إلى الفئات الثلاث التي سبق أن اشرنا إليها ، وبالتالي فإن علاقتهم مع بعضهم بعضاً لابد وأن تختلف عن علاقة آبائهم وأمهاتهم ( كبار السن ) بعضهم مع بعض ، ولا سيما أنهم الثلاثة ( الأبناء ) يتلقون نفس الثقافة من نفس المعلم . إن هذه الخاصية الشبابية هي التي تقف وراء دور الشباب الفاعل في ثورات الربيع العربي ، ولاسيما في مصر وسورية ، وهو دور أقرب إلى مبادئ الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحداثة ، وبالتالي المبادئ والمواقف الثورية من آبائهم وأمهاتهم . بيد أن مفهومهم لهذه المبادئ قد لايكون واضحاً ولا محدداً بل ولا واحداً ، ودون أن نستبعد ــ بطبيعة الحال ــ أثر البيئة الأسرية والمجتمعية عليهم بسلبياتها وإيجابياتها ، ولعل هذا هو ماقدم ويقدم الذريعة لبعض كبار السن من السياسيين ، أو ممن تضررت مصالحهم الخاصة ، ولاسيما المصالح الاقتصادية ، لاتهام شباب ثورات الربيع العربي بعدم النضج وعدم الكفاءة السياسية والفكرية ، ملوحين بضرورة تجاوزهم ، وتجاوز ميادينهم وجمعهم ( بضم الجيم ) ، وإعادة المياه إلى مجاريها ، وبالتالي إعادة "حليمة إلى عادتها القديمة !! " .

6. إن ماجرى ويجري في كل من سورية ومصر منذ أكثر من سنتين ، لايعدو ــ بنظرنا ــ أن يكون ، صراعاً سياسياً وإقتصادياً ، بين قمة الهرم الإجتماعي والسياسي الضيقة ( فئة الذئاب المسعورة ) ، وقاعدته الشعبية العريضة ، ( فئة المستضعفين من الفقراء والأميين) ، في الوقت الذي تضع فيه شريحة عريضة من المثقفين ومن الفئات المتوسطة المختلفة ، من عسكريين ومدنيين ، رجل ( بكسر الراء ) عند القمة وأخرى عند القاعدة

، لسانها مع القاعدة  وسيوفها مع القمة .

إن الموقف السلبي من ثورات الربيع العربي ، وبالتالي من الشباب الذين قادوا وفجروا هذه الثورات ، ولاسيما في مصر وسورية ، إنما ينطوي ــ من وجهة نظرنا ــ على بعد سياسي واجتماعي مسكوت عنه ، هو أخطر من كل مانقرؤه ، وما نسمعه ، ومانشاهده في كافة وسائل الإعلام . ويتمثل هذا الموقف بالتحالف الضمني ، وأحياناً العلني ، بين من يملك "المصنع والمدفع" خارج الحدود ، وبين من يملك "البترودولار" داخل الحدود ، وذلك لوضع حد نهائي للصراع العربي الصهيوني حول فلسطين وبيت المقدس .

إن الموقف السلبي من ثورات الربيع العربي عامة ، وثورتي مصر وسورية خاصة ، إنما هو موقف ضد الديموقراطية ، وضد نداء الحرية والكرامة في ساحات وفي ميادين البلدين ، وبالتالي ضد حقوق الإنسان . والله أعلم .

ــــ انتهى ــــ