من ذكريات العيد...
هنادي نصر الله
انقضى العيد، وتحولتْ أحداث أيامه إلى أرشيفِ ذكرياتنا، تناولنا أطعمته وكأننا لم نكن صائمين من قبل؛ سبحان من غيرّ أحوالنا؛ يُغير ولا يتغير..!
أكلنا، شربنا، وقهقنا من أعماقِ قلوبنا، ونحن نستعيدُ أجمل ذكرياتِ حياتنا، تلك الأرجوحةِ التي يتأرجحُ عليها أطفال وصغار عهدنا الحالي، الذي انتقلنا فيه إلى مرحلة الشباب، كم أسعدتنا وهي تخفضنا تارةً نحو الأرض، وترفعنا تارةً أخرى نحو السماء، إنها تُمثل الدنيا بأفراحها وأحزانها، فأحيانًا تكونُ أرواحنا تُناطح الثريا في شموخها وسعادتها، وأحيانًا تُمرغنا الأحزان دون رحمة ...
كانتْ غزة أشبه " بأميرة الأفراح" تُوزعُ الفرح على أبنائها بطريقةٍ مذهلةٍ، أجزمُ بأن الجميع شعرّ بالعيدِ وبهجته، فقد اكتفى التعيس بتذوق قطعة واحدة من " شيكولاتة العيد" ليحس بطعمه؛ كما اكتفى الفقير بشم " فسيخ الجيران" وهو يُقلى عن بُعد ، كي يستشعر أنه في عيد...!!
أما متوسطو الدخل فقد ذهبوا إلى المنتزهات التي تُناسبهم؛ فكما يقول المثل الشعبي" أهل مكة أدرى بشعابها" وكذلك الناس أدرى بالمكان الذي يُناسبُ ما في جيوبهم، وعلى رأي مثلٍ آخر" على قد لحافك مد رجليك"...
وجدنا أصحاب الدخل المحدود في منتزه البلدية، وفي الجندي المجهول، وفي بعض الإستراحات على شاطئ بحر غزة، فيما نأتْ العائلات الميسوة جدًا بنفسها عن أماكن التجمعات؛ بحجزها مسبقًا لأراضٍ زراعية ومنتجعات وشاليهات خاصة؛ كي تستمتع بالعيد بعيدًا عن الزحمة والفوضى والأعين...
قطعتُ على نفسي أن أستمتعَ بالعيدِ كطفلةٍ لم تعرفْ من الدنيا سوى طريقة الفرح؛ تخليتُ عن مقعدي؛ وأخذتُ ألهو مع الصغارِ؛ وأجري مثلهم؛ وأعيشُ جو الطفولةِ بكل تفاصيله، إلى أن لمحتُ " عجوزًا تبدو في عقدها الثامن، تتكأ على كتفِ سيدة، فيما تتكأ في الجهةِ الأخرى على عكازها"، بسرعةُ أخذتُ أقفزُ نحوها مسرعة، وأنا أُحدث نفسي " ربما تكون أم فارس بارود" والدة الأسير المنتظر أن يخرج ضمن صفقة الأسرى القدامى التي يُقال عنها في الأخبار...
سألتُ السيدة التي معها بينما كان وجهُ أم فارس متجهًا نحو شاطئ البحر، هذه أم فارس صح؟ قالتْ أجل، ثم أخذتُ أصافحها، في حين أخذتْ تُحدثني بلهفةِ المتعبْ من الإنتظار" اقتربَ موعد اللقاء، سأزوجه، وأفرح به، وأذبح له عجلاً، وأعزم كل الناس" ...
ثم تابعتْ حديثها" صبرتُ كثيرًا، الله كبير يا ستي، يا حسن حظها من ستأخذ فارس؛ فهو وحيدي، وأنا لن أعيش طويلاً؛ فقد أراه وأموت، وهي ـ أي زوجته ـ ستبقى معه تُقاسمه أملاكي، قطعة الأرض، البيت"..
قلتُ لها" يا عزيزتي.. ربنا يبارك في عمرك، لا تستعجلي الأمور، ونصيحتي اتركي فارس يختار شريكة حياته بنفسك، لا تورطيه بأيِ فتاةٍ؛ كي لا يندب حظه مستقبلاً؛ في عصرٍ بات الرجل لا يؤمنُ فيه باختيار أمه، وإن تأقلم معه مؤقتًا"..
ضحكتْ أم فارس.. وقالتْ صحيح، سأعرض عليه قائمة من البنات، لاسيما الموظفات وأطلبُ منه أن يختار من تُناسبه منهن..
قلتُ لها" لِم موظفة ؟؟ تخرجُ من البيتْ وتعود بعد منتصف النهار على أفضل تقدير؛ فتأخذ من وقته؛ وتكون مرهقة، أليس من حقه أن يعيش مع ربة بيتٍ تُفرغ نفسها لأجله ولأجله فقط؛ فتُسعده وتُعوضه عن سنين سجنه؟؟
ردتْ وكأنها واثقةً من قولها" الموظفة بتفهم، وغير الموظفة " لطخة"
قلتُ في ذهني.. سبحان الله، كم يحترم مجتمعنا من لديه مال؛ ذكر أو أنثى، حقًا معك قرش بتساوي قرش، فهل أصبحنا في زمنٍ نُشترى فيه بالمال.. وحتى الموظفة تشتري خطيبها بمالها، لا هو يشتريها بماله؟؟
في العيدِ وأطعمته وأحداثه وأيامه؛ لا تتجلى السعادة فقط، بل تظهر أيضًا ثقافة مجتمعنا وطبيعة الأفكار التي يتمسك بها المواطنون؛ ففي كل جلسةِ سمرٍ وفي كل ضيافةٍ عائلية ورحلة مع الأصدقاء؛ بإمكاننا أن نخرج بالكثير من العبر والمواعظ..
فأيام العيد وذكرياتها عزيزي القارئ.. تمتلك الكثير من أوراق القوة؛ التي تستحق أن نجعل منها مادة صحفية؛ نكتبها لا لنستمتع في قراءتها؛ بل لنستخلص منها الحكمة؛ التي تُعيننا على مواجهة إشكاليات الحياة..
وكل عام ودياركم عامرة بالأعياد والأفراح.