السياسة
د. أحمد محمد كنعان
في أحد الأيام كان الفيلسوف الإغريقي "هرقليطس" يلعب النرد مع الصبيان على قارعة الطريق عندما مرَّ به بعض الساسة ، فتعجبوا من أمره ، وسألوه : لماذا تفعل ذلك أيها الفيلسوف المبجل ؟! فأجابهم بسخريته اللاذعة : وما يدهشكم في هذا أيها الأغبياء ؟! أليس هذا أفضل من اللعب بالسياسة معكم ؟
ووصف أحد الصحافيين الفكهين رجال السياسة الطامعين بالمناصب العليا مهما كان الثمن ، فقال : إن السياسي أشبه بالقرد الذي يتسلق شجرة فهو كلما ارتفع أكثر كلما انكشفت سوأته أكثر !
هذه هي بعض النظرات المغرقة في انتقادها للسياسة وأهل السياسة ، وهي للأسف نظرات تنطوي على الكثير من الحقيقة ، فقد يكون اللعب مع الصغار والاستمتاع ببراءتهم وابتساماتهم العذبة أكثر جدوى من ممارسة السياسة ، بل أكثر أماناً من التعامل مع أهل السياسة الذين لا يتورع أكثرهم عن ارتكاب أشنع الحماقات حتى ضد أقرب المقربين إليهم في سبيل تحقيق أهدافهم السياسية والبقاء في "الكرسي" لأطول فترة ممكنة !
والسياسة في تعريفها البسيط هي فن ممارسة الحكم ، وقد نشأت حاجة المجتمعات البشرية إلى من يحكمها بعد توسع المجتمع البشري ، وتداخل مصالح الجماعات البشرية ، وتضارب هذه المصالح ، وما نشأ عن ذلك كله من صراعات وخلافات بين الناس ، وهذا ما جعل الحاجة ماسة لوجود شخص أو جماعة تعمل للمحافظة على حالة الأمن والسلام بين الناس ، وهكذا ظهر أهل السياسة على الساحة.
ويحدثنا ابن خلدون عن السياسة وضرورتها لاستقرار المجتمع البشري على ما فيها من غلبة وقهر وظلم في أكثر الأحيان فيقول : ( لما كانت حقيقة المُلْك أنه الاجتماع الضروري للبشر ، ومقتضاه التغلب والقهر ، اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية ، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق ، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم ، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طَوْقهم من أغراضه وشهواته ، ويختلف ذلك باختلاف المقاصد من الخلف والسلف منهم ، فَتَعْسُر طاعتُه لذلك ، وتجيء العصبية المفضية إلى الهَرْج والقتل ، فوجب أن يُرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يُسَلِّمُها الكافة وينقادون إلى أحكامها ، كما كان الفُرْس وغيرهم من الأمم ، وإذا خَلَت الدولة من مثل هذه السياسة لم يَسْتَتِبَّ أمرُها ، ولا يتم استيلاؤها ، سنة الله في الذين خلوا من قبل )(1) ، ثم يمضي ابن خلدون مبيناً الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يتولى أمر الناس ويسوسهم ، ويناقش الفروق الجوهرية ما بين السياسة الدينية والسياسة الدنيوية ، ويتوقف طويلاً ليبين أوجه الاختلاف ما بين الخلافة والمُلك إلى غير ذلك من القضايا المتعلقة بالممارسات السياسية .
النظريات والمذاهب السياسية :
وقد شهد تاريخ السياسة العديد من النظريات والفلسفات والمذاهب السياسية ، وتزخر المكتبة السياسية منذ القدم بآلاف الكتب التي تناولت موضوع السياسة من جوانبه المختلفة ، منها تلك الكتابات الأدبية ذات الصبغة السياسية التي خلفها فيلسوفنا ابن المُقَفَّع ( 724 ـ 759م ) الذي انهمك بالعمل السياسي إلى أذنيه ، وكان شديد التطلع إلى المراكز العليا في الدولة ، متشوفاً لاحتلال مكانة لائقة به في دنيا السياسة ، وكان في الوقت نفسه ميالاً للكتابة السياسية على ما في هذا الميل من مجازفة يعرفها جيداً كل الذين تورطوا في الكتابة السياسية ، وقد ترك لنا ابن المقفع تراثاً يضم العديد من الكتب ذات الصبغة السياسية اللاذعة ، من أشهرها كتابه الممتع (كليلة ودمنة) الذي تحدث فيه بلسان الحيوان عن مسؤولية المثقف تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية ، وكتابه (رسالة الصحابة) الذي تحدث فيه عن بطانة الحكام ، وعرض فيه خطته السياسية الإصلاحية التي تتناول أربع مسائل سياسية محورية تتعلق بأهم أربع مؤسسات في الدولة ، هي : المؤسسة العسكرية ، والقضاء ، وبطانة الحاكم ، والإصلاح الزراعي أو ما يعرف في الفقه الإسلامي باسم (الخَراج).
وقد عرض ابن المقفع في كتبه المختلفة الأسس والنظم والمُثل العليا اللازمة لتصحيح الأوضاع السياسية والاجتماعية المتدهورة ، وبيَّن واجبات كل فئة من فئات المجتمع في بناء الدولة ابتداء من الحكام إلى أدنى فرد في الرعية ، وهذا ما أثار عليه حفيظة الخليفة العباسي (المنصور) الذي توجَّس منه خيفة ، وخشي من مؤلفاته أن تثير عليه العامة ، فأمر واليه في العراق أن يسكته نهائياً ، فلاحقه الوالي وقبض عليه وقتله قتلة شنيعة ، وهذه الملاحقات والتصفيات الجسدية ليست نادرة في تاريخ السياسة ، بل إن سجل التاريخ السياسي حافل بما هو أدهى وأمرّ !
ومن الكتَّاب والفلاسفة والمفكرين الذين تعرضوا بإسهاب للحديث عن السياسة في تراثنا السياسي العلامة ابن خلدون الذي خصص فصولاً مطولة في (المقدمة) للحديث عن السياسة كما قدمنا ، ولاسيما منه الباب الثالث من الكتاب الأول الذي تناول فيه الحديث عن (الدول العامة والمُلْك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال) ، ومنهم أيضاً فيلسوفنا الفارابي ( 870 ـ 950م ) الذي ناقش جانباً مهماً من الممارسات السياسة ، ألا وهو الشورى أو (الديموقراطية) حسب مصطلحات عصرنا الراهن ، وذلك في كتابه الشهير (المدينة الفاضلة) الذي وصف فيه حياة هذه المدينة قائلاً : ( .. فأما المدينة الجماعية فهي المدينة التي كل واحد من أهلها مُطْلَقٌ مُخَلَّى لنفسه يعمل ما يشاء ، وأهلها متساوون ، وتكون سُنَّتُهم أنْ لا فضل لإنسان على إنسان في شيء أصلاً ، ويكون أهلها أحراراً يعملون ما شاؤوا ، ولا يكون لأحد على أحد منهم ولا من غيرهم سلطان إلا أن يعمل ما تزول به حريتُهم ، فَتَحْدُث فيها أخلاقٌ كثيرةٌ ، وهمم كثيرة ، وشهوات كثيرة ، والتذاذ بأشياء كثيرة لا تحصى كثرة .. )(2) .
وعن أهل هذه المدينة يقول الفارابي : ( ويكون أهلها طوائف كثيرة متشابهة ومتباينة لا تحصى كثرة ، فتجتمع في هذه المدينة تلك التي كانت متفرقة في تلك المدن كلها ، الخسيس منها والشريف ، وتكون الرئاسات بأي شيء اتفق من سائر تلك الأشياء التي ذكرناها ، ويكون جمهورها الذين ليست لهم ما للرؤساء مسلطين على أولئك الذين يقال فيهم إنهم رؤساؤهم ، ويكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادة المرؤوسين ، وإذا استقصى أمرهم لم يكن فيهم في الحقيقة لا رئيس ولا مرؤوس )(3) وهذا هو أقرب وصف للنظام الديموقراطي المعروف حالياً في معظم دول الغرب حيث يعد الحكام مجرد موظفين منتخبين من قبل الشعب ، ولا يجوز لهم البقاء في مناصبهم إلا لفترة معينة يحددها الدستور ، فإذا انقضت هذه الفترة تنازلوا عن مناصبهم إلى غيرهم بهدوء ودون صخب ولا احتجاج ولا اعتراض .
وقد أدرك المسلمون الأوائل هذا المعنى في ممارسة السياسة قبل أوروبا بقرون طويلة ، بدليل أن فقهاء الإسلام أطلقوا على الأمير وصف (الخليفة) وذلك إدراكاً منهم بأن الأمير في المنظور السياسي الإسلامي ليس سوى نائب عن صاحب الشرع ، وأنه مستخلف في الرعية ليقيم شريعة الله عزَّ وجلَّ في الأمة ، فإذا لم يفعل ذلك فَقَدَ حقَّه في الخلافة ، وجاز للرعية عزله ، ومن طريف ما يروى بهذا الصدد أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان في أحد الأيام جالساً بين أصحابه فجاءه أعرابي فسلم عليه قائلاً : السلام عليك أيها الأجير . فظن أصحاب عمر أن الأعرابي يستهزئ به ، فقاموا إليه يعنِّفونه ويريدون البطش به ، لكن عمر منعهم وقال لهم : لقد أصاب الرجل ، وهل نحن إلا أجراء قد وكلَّنا الله بكم ؟! فقد أدرك عمر رضي الله تعالى عنه أن كلمة (الأجير) التي قالها الرجل لم يرد بها إهانة الأمير بل أراد التعبير بها عن حقيقة الوظيفة المنوطة بالخليفة .
المكيافيلية :
وقد شهد تاريخ السياسة مذاهب شتى في فلسفة السياسة ، وتبرير أساليبها ، وإضفاء المشروعية على وسائلها ومناهجها المختلفة ، حتى الدنيئة منها ، ولعل من أشهر تلك المذاهب في العصور المتأخرة مذهب (المكيافيلية) الذي أسسه السياسي المؤرخ الإيطالي نيكولا مكيافيلي ( 1469 ـ 1527م ) الذي شارك في مطلع حياته بالعمل السياسي ثم اعتزل السياسة لما وجد فيها من مكائد وسقطات ومهالك لا أول لها ولا آخر ، فتفرغ للتأليف ، واشتهر في دنيا السياسة بمؤلفه الشهير (الأمير) الذي كتبه عام 1513م وأهداه إلى حاكم فلورنسا من "آل مديتشي" وأيد فيه نظام الحكم المطلق ، وزيَّن فيه للحاكم استخدام مختلف الوسائل الشريفة وغير الشريفة ، المشروعة وغير المشروعة ، لضمان حكمه وبقائه على رأس الدولة ، على أساس القاعدة المكيافيلية التي تقول : (الغاية تبرر الوسيلة) ، ومن هنا صار مصطلح (المكيافيلية) وصفاً لكل مذهب سياسي لا يتورع عن أي سلوك يضمن استمراره في السلطة ، وكأن السياسي مهما كان نبيلاً قبل انهماكه بالعمل السياسي فإنه ما إن يمسك بعصا السلطة حتى يجد نفسه مضطراً ـ أو هكذا يخيل إليه ـ للتنازل عن مبادئه واحداً بعد الآخر ، ثم لا يتورع عن فعل كل الأمور الكريهة التي كان يرفضها عندما كان على براءته الأولى قبل أن تدنسه السياسة !
ومما كتبه مكيافيللي بهذا الصدد : ( كلنا نعرف كم هو مشكور أن يحفظ الأمير وعوده ، وأن يعيش بأمانة واستقامة ، ومع هذا كله تبين اختبارات أيامنا الحاضرة أن الأمراء الذين قاموا بأعمال عظيمة ورائعة كانوا زاهدين بالأمانة واحترام العهود ، فقد تمكنوا بالرياء والخداع من خلق التخبط في عقول البشر ، بينما أولئك الذين جعلوا الإخلاص أساس معاملاتهم هلكوا هلاكاً ذريعاً .. يجب أن يكون الأمير إذن ثعلباً ليتحسس الفخوخ ويتجنبها ، وأسداً ليخيف الذئاب الذين يتربصون به ، أما الذين يرغبون بتقليد الأسد وحده فإنهم لا يفقهون ، وبناء عليه ينبغي على الأمير الحاذق أن لا يحفظ عهده عندما يضطره الحفاظ على العهد للتضحية بمصلحته ، أو عندما تتغير الأسباب التي اضطرته لقطع هذا العهد على نفسه ، لو كان الناس جميعهم أخياراً لكانت هذه النصيحة غير صالحة ، ولكن بما أنهم أشرار ولا يحفظون عهودهم معك ، فقد أصبحت غير ملزم أن تفي بوعودك معهم )(4) !
غير أن مكيافيلي بعد حين تراجع عن هذا المذهب لما رأى من جرائم ترتكب باسمه ، وألف كتاباً آخر بعنوان (المقالات) أو الخُطَب ، عارض فيه كتابه الأول وأيد النظام الجمهوري القائم على سيادة الشعب ، وعدَّد فيه مزايا هذا النظام وفضَّله على الحكم الملكي الوراثي .. وهنا لا يفوتنا إلا أن نشيد بمثل هذه "الردة" الفكرية التي تعبر عن العودة لما هو خير وأصلح ، ولكن من المؤسف أن معظم الفلاسفة والمستشارين وفقهاء السلاطين لا يجترحون هذه الردة ، وإذا ما اجترحوها فعلوا ذلك بعد فوات الأوان !؟
الطوباوية :
وهناك مذهب سياسي آخر ظهر في تاريخ السياسة هو الطوباوية (Utopia) وهي كلمة يونانية معناها في الأصل ( المكان الخالي القصيّ ) أما في إطار السياسة فقد أخذت معنى آخر هو (المدينة الفاضلة) أو ( الفردوس المفقود ) وهي تعبر عن نظرة مثالية للممارسات السياسية في المجتمع ، وقد اشتهر هذا المصطلح في السياسة منذ أن أصدر المفكر السياسي الإنكليزي توماس مور ( 1478 ـ 1535م ) كتابه (اليوتوبيا) وتحدث فيه عن النظام الأمثل للدولة ، وهو نوع من الحكم يختلف كل الاختلاف عما عرفته إنكلترا أو غيرها من أمم الأرض قبل ذلك ، وقد تخيَّل توماس مور في هذه الدولة إلغاء المُلْكيَّة الفرديَّة ، وجعل أموال الدولة كلها مشاعاً لأفراد الرعية الذين يعيشون أساساً على الزراعة مع بعض الحرف الضرورية ، وجعل العمل إجبارياً على جميع المواطنين بشرط أن لا يتعدى 6 ساعات يومياً ، لكي يتبقى للناس متسع من الوقت للاشتغال بالأمور الروحية ، أما اختيار القادة والأمير أو حاكم الدولة فيكون عن طريق نظام انتخابي معقد ، وكذلك اختيار الذين سوف يكرِّسون أنفسهم للعلم ، أما النظام الأسري في هذه الدولة المثالية فيقوم على أساس الزوجة الواحدة ، وكل ما ينتجه الأفراد يُسَلَّم للدولة ويحصل كل رب أسرة على ما يحتاج إليه من مخازن الدولة ، والنساء متساويات تماماً مع الرجال في كل شيء !
وقد سبق لفيف من المفكرين إلى الكتابة في الطوباوية منهم الفيلسوف اليوناني أفلاطون في (الجمهورية) والقديس أوغسطين في (مدينة الله) والفيلسوف العربي الفارابي في (آراء أهل المدينة الفاضلة) الذي أوردنا فقرات منه قبل قليل ، وكامبانلا في (مدينة الشمس) ، وفرانسيس بيكون في (أطلنطس الجديدة) وهربرت جورج ويلز في (يوتوبيا حديثة) إلا أن هذه المدينة الفاضلة التي حلم بها هؤلاء ظلت إلى يومنا الحاضر مجرد حلم وردي يداعب أهداب الفلاسفة كما يداعب أهداب المعذبين في الأرض .. وما أكثرهم !
فهذه الدولةُ الحُلُمُ لم تر النور حتى اليوم في أية بقعة من بقاع الأرض ، وذلك لأن الحلم شيء والواقع شيء آخر ( ويبدو أن اليوتوبيا التي حلم بها الكثيرون على مرِّ الزمن تبقى جميلة إلى اللحظة التي تتحقق فيها ، لأنها حين تتحقق على أرض الواقع تتحول على الفور إلى مآس وآلام ، فلو تحققت مثلاً المدينة اليوتوبية التي نادى بها توماس مور لوجد نفسه بيسر في ظل نظام شيوعي ستاليني )(5) مع كل ما انطوى عليه هذا النظام من دكتاتورية وقمع وتنكيل وسفك للدماء ، وهذا يعني أن أروع ما في اليوتوبيا أنها غير قابلة للتحقيق ، وأجمل ما تعطينا إياه هو ذلك الشعور الروحي الدفَّاق الذي تولده في نفوسنا ويدفعنا للتغيير بحثاً عما هو أفضل وأنبل ، وهذا ما عبر عنه الأديب الإنكليزي أوسكار وايلد ( 1854 ـ 1900 ) في أحد تعليقاته البليغة حيث قال : ( إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا لا تستحق حتى مجرد النظر إليها ، لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائماً إليه ، وعندما ترسو على شاطئه تتلفت في الأفق فإذا لمحت بلداً آخر انطلقت مبحرة إليه ) !
أجل .. فالنفوس النبيلة تتوق باستمرار إلى ما هو أسمى وأمثل ، وهذا ما يجعل أصحاب النفوس الكبيرة في مأزق حقيقي وهم يعيشون عصرنا المادي البائس الذي أمسى ( عصر التسويات والحلول الوسط ، والسعي لجعل العالم أقل شروراً ، والحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار ، والناس العمليون هم الذين يحكمون حياتنا ، فلم نعد نبحث عن حلول جذرية لشرور المجتمع بل لإصلاحه ، ولم نعد نسعى لإلغاء الحروب بل لتجنبها فترة تمتد لسنوات قليلة ، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية ، ولا نحاول إلغاء المجاعات بل نسعى لإنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع .. وعندما يعيش المرء في عصر ينشغل بكل ما هو عملي قابل للتحقق السريع فربما يكون من المفيد أن يلجأ إلى الأشخاص الذين حلموا باليوتوبيات ، ورفضوا أي شيء لا يتلاءم مع مثلهم الأعلى عن الكمال )(6) .
أجل .. هذه هي الحقيقة .. فبالرغم من كل النكسات المؤلمة التي انتهت إليها معظم المحاولات الماضية لتحقيق المدينة الفاضلة على الأرض ، فإن الإنسان سيظل يحلم بتلك المدينة ، ربما لأن الحلم جزء لا يتجزأ من التكوين الفطري للإنسان ، وهذه نعمة كبيرة من نعم الخالق عز وجل علينا ، لأن تلك المدينة الحلم حتى وإن لم تتحقق فإن مجرد المحاولة لتحقيقها يبعث في النفس السعادة ، ويدفع إلى المزيد من العمل الذي يثمر في نهاية المطاف المزيد من تقدم المجتمع البشري وتطوره ( فلولا يوتوبيات العصور الأخرى لظل الناس يعيشون في الكهوف عرايا بؤساء ، إن اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدنية الأولى ، فمن الأحلام السخية تأتي الوقائع النافعة ، إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم ، وهي محاولة لبلوغ مستقبل أفضل )(7) .
الدولة العلمانية :
تلك هي السياسة في منظورها المثالي ، وأما على أرض الواقع فقد حفل تاريخ السياسة بالكثير جداً من الكتابات التي تناولت النظم والمبادئ السياسية ، منها كتاب (المُدافع عن السلام) الذي نشره مارسيل البادوفاني ( 1275 ـ 1343 ) في عام 1324 وعرض فيه النظم والمبادئ التي ينبغي أن تقوم عليها (الدولة العلمانية) للتمكن من مواجهة التحالف الظالم الذي جمع بين السلطة البابوية المطلقة من جهة وسلطة الإقطاع من جهة أخرى ، وهذا ما جعل المجتمع الأوروبي في ذلك الحين يئن تحت وطأة هذا التحالف الظالم ، ودفع معظم المفكرين والفلاسفة والمعذبين للمناداة بشعار : اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعي !
وفي أواخر القرن السادس عشر نشر الفيلسوف السياسي الاجتماعي الفرنسي جان بودان ( 1520 ـ 1596) كتاباً سماه (الكتب الستة لدولة خيِّرة) وقد ضمنه خلاصة فلسفته في النظر إلى التاريخ السياسي ، وانتهى إلى أن السيادة المطلقة في الدولة ينبغي أن تعطى للملوك الذين من حقهم أن لا يخضعوا لأي قانون سوى قانون الله والطبيعة ، وفي منتصف القرن السابع عشر نشر الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز ( 1588 ـ 1679) كتابه (لواياثان) أو (التنين الجبار) الذي عرض فيه الرغبات التي توجه سلوك الإنسان في الدولة ، وانتهى إلى أن الإنسان يروم تحقيق كل رغباته دون حسيب ولا رقيب ، لكنه يصطدم برغبات الآخرين في المجتمع ، ولكي يعيش في أمان فإنه يحتال لذلك ، وتلك الحيلة هي "الدولة" التي تملك السلطان المطلق لإصدار القرارات وتنفيذها على جميع المواطنين الذين عليهم أن يتنازلوا للدولة عن حريتهم الطبيعية ، وقد قدَّم هوبز تفصيلاً جيداً للمسائل السياسية الرئيسة : الدولة وسيادتها ، وسلطة الحكومة ، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين ، والسلطات المنظمة للمجتمع .
وبعد ذلك بفترة وجيزة عرض الفيلسوف الإنكليزي جان لوك (1632 ـ 1704) النظام النيابي والحكومة الممثلة للشعب ، ودعا إلى الليبرالية ، ونادى بأن يكون جميع الناس أحراراً متساوين ومستقلين بعضهم عن بعض ، ولا يجوز أن يخضع أحدهم للآخر دون رضاه ، وإذا ما انتزع هذا الحق من الشعوب والأفراد وأصبحت تحكمهم سلطة غير شرعية فإن عليهم أن يثوروا ضدها .
ثم جاء الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو ( 1689 ـ 1755 ) الذي خاض غمار السياسة وتولى منصب رئيس مجلس النواب في مدينة بوردو ، وخرج من تجربته السياسية بآراء ثاقبة أثرت تأثيراً عميقاً في تاريخ السياسة من بعده ، وقد انتقد سياسة المجتمع الأوروبي في كتابه (الرسائل الفارسية) وعرض في كتابه (روح القوانين) أشكال الحكومات المختلفة ، وشرح مبدأ الفصل بين السلطات ودافع عنه ، وقرر أن السلطة بطبيعتها تغري بالانحراف ، وأن جمع السلطات في يد واحدة يضاعف من خطر الاستبداد ، والوسيلة المثلى لمنع ذلك هي توزيع السلطات بين هيئات مختلفة ، كما فعل النظام الإنكليزي ، ونادى مونتسكيو بالديموقراطية النيابية ، لأن الشعب غير قادر على ممارسة التشريع بنفسه ، ونادى بفكرة النيابة العامة لعضو البرلمان ، فالنائب لا يمثل دائرته الانتخابية وحدها وإنما يمثل الأمة كلها ، وقد كان لآراء مونتسكيو تأثير كبير على رجال الثورتين الفرنسية والأمريكية ، وبخاصة نظريته التي تقول بالفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية .
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر نشر الفيلسوف الأديب السياسي جان جاك روسو ( 1712 ـ 1778 ) كتابين مهمين في السياسة هما (العَقْد الاجتماعي) و (مقال في أصل وأسس عدم المساواة بين الناس) عرض فيهما بأسلوب أدبي مُشْرق طبيعة العقد الذي ينبغي أن ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، والمساواة الاجتماعية التي ينبغي أن يعبِّر عنها هذا العقد لتكون بمثابة الروح للجسد .
وفي أوائل القرن التاسع عشر أصدر الفيلسوف الألماني هيجل ( 1770 ـ 1830 ) كتابه الشهير (مبادئ فلسفة الحق) الذي ذهب فيه إلى أن المجتمع ينبغي أن يقوم على أساس الأسرة والمُلكية الخاصة ، وأن المجتمع ما هو إلا تنظيم اقتصادي يتعاون فيه نظام الحاجات مع نظام العمل بغية تكوين حركي منتج للثروات ، ونظراً لأن هذا النظام سيصطدم بتناقضات الفئات المختلفة في المجتمع فقد لزم إيجاد مبدأ يُعترف له بالسلطان الكامل ويكون مسؤولاً عن اتخاذ القرارات التي تنظم المجتمع ، وتلك هي الدولة ذات السيادة التي تتجسد في شخص الحاكم الذي هو مصدر القوانين ، ويساعده موظفون يُعَيَّنون بحسب كفاءتهم ، ويديرون شؤون الدولة على نحو يوفق بين مصالح الجماعة ومصالح الأفراد الجزئية ، غير أن المفكر الألماني كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) رأى أن النموذج الذي عرضه هيجل يكرِّس السيطرة السياسية لفئة الحكام الذين يملكون "رأس المال" ويتيح لهم أن يستغلوا قوة العمل التي يقدمها الكادحون الذين لا يملكون وسائل الإنتاج ، ومن ثم فإن الدولة التي صوَّرها هيجل هي نتاج النظام الاقتصادي البورجوازي الذي يستهدف المحافظة على الأنظمة القائمة وإحكام السيطرة على مقدرات المجتمع ، كما أن هذا النظام في رأي ماركس يحول دون قيام ثورات للعمال والفلاحين لتغيير هذه الأوضاع المجحفة بحقهم .
وهكذا نجد أن تاريخ السياسة حافل بالعديد من النظريات والمذاهب السياسية التي وجد بعضها طريقه إلى التطبيق العملي في بعض البلدان أو في بعض العصور ، وقد أظهرت التجربة فشل بعضها وصلاحية بعضها الآخر ، ولا نعني هنا بـ "الصلاحية" المعنى الأخلاقي للكلمة بل نعني الجانب العملي ، أي إن بعض تلك النظريات استطاعت أن توفر للمجتمع حداً معقولاً من الاستقرار السياسي ، والأمن الاجتماعي ، والأرضية المناسبة للنشاط العلمي الذي ساعد تلك المجتمعات على تحقيق إنجازات علمية وحضارية كثيرة زادت من مساحة تمكينها في الأرض ، كما هي مثلاً الحال الراهنة في معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان وغيرها من الدول التي انتهجت النهج الديموقراطي في سياساتها ، فقد أثبت هذا النهج حتى الآن كفاءته وصلاحيته لحل الكثير من القضايا والمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشائكة في تلك البلدان ، قياساً ببقية دول العالم التي مازالت تتخبط في مستنقع الحكومات الدكتاتورية الشمولية ، وتعاني أشد المعاناة من مشكلات وقضايا لا أول لها ولا آخر .. وللحديث صلة .
(1) ابن خلدون : المقدمة ، ص 177 ، تحقيق د. درويش جويدي ، المكتبة العصرية ، صيدا وبيروت 2002 .
(2) د . عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة 2/117 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1984 .
(3) المصدر السابق .
(4) كتاب ( الأمير ) الفصل الثامن عشر .
(5) أخذناه بتصرف من الحوار الصحفي الذي أجري مع الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو ( مجلة الثقافة العالمية ، العدد 116 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت 2003 ) .
(6) ماريا لويزا برنيري : المدينة الفاضلة عبر التاريخ ، ص 17 .
(7) المصدر السابق ، ص 7 .