بؤس الصحافة بعد انقلاب مصر
ذ. سعيد عبيد / مكناس - المغرب
حين يقول إعلامي قدير من قامة الأستاذ الصحفي أحمد منصور: "الإعلام المصري يرتكب جريمة في حق هذا الشعب لا تقل عن جريمة الذين قَتلوا (يقصد الذين قتلوا متظاهري الحرس الجمهور من أنصار الرئيس المعزول د. محمد مرسي). الذين يطمسون الحقائق ويعودون إلى إعلام الخمسينيات والستينيات يرتكبون جريمة بحق هذا الشعب لا تقل عن جريمة الذين أطلقوا الرصاص عليهم"، فإن شهادته هاته ينبغي أن تسجل في محكمة التاريخ، حتى لا يذهب دم الحقيقة المسفوح هدرا، كما يبدو أنه سيكون شأن دم الأزيد من خمسين شهيدا العزَّل الذين أسقطهم رصاص الجيش أمام مقر الحرس الجمهوري، ما دام حضرة الناطق الرسمي باسم الجيش قد صرح أن الجيش كان في حالة دفاع عن النفس ضد مجهولين أطلقوا عليه النار، مستصحبا صورا وبضعة ثوان من أشرطة بائسة خردة، لا تصلح أن تكون حجة لقتل نملة واحدة.
الحقيقة أن بؤس المشهد الصحفي المصري خاصة بدا واضحا في جلاء ما بعده جلاء، وهو في قمة تراجيدياه الساخرة، لما قام مدير تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط عزت شعبان (الذي يبدو أن الجيش يعرفه جيدا ما دام السيد العقيد، الناطق الرسمي باسم الجيش، نادى عليه باسمه الشخصي) ليطلب من الناطق الرسمي باسم الداخلية المصرية في المؤتمر الصحفي المشار إليه أعلاه، باسم كافة الصحفيين، بطرد قناة الجزيرة من المؤتمر، بحماس شديد، وصوت جهوري يردد "بَرَّه، بَرَّه، بَرَّه"، وثبات "أسطوري"، وسط تهليلات وتصفيقات السادة الصحفيين أجمعين، مما لبى معه قادة المؤتمر الطلب على وجه السرعة، حبا وكرامة، وسط هذا الإجماع الصحفي العجيب، مما لم تفد معه احتجاجات صحفية الجزيرة التي أُخرجت للتو من الباب الذي دخلته، والسيد اللواء يردد كالأبله: "إحنا في مصر، بلد الديمقراطية والحرية"! مشهد تراجيكوميدي روعة، لا أدري كيف غاب وحيه عن شيطان السينما الهزلية المصرية إمام عادل؟
تابعتُ مجزرة أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي أمام الحرس الجمهوري بُعيد وقوعها متنقلا بين قنوات "الجزيرة" و"القدس" و"الحوار"، مع كل ما يمكن أن يسببه النقل المباشر من ألم شديد نتيجة الصور التي لا يمكن التحكم في عملية إظهارها، بغية تجنب الصادمة منها. وفي تلك الأثناء كنت أتنقل بين القنوات التي سطع نجمها قبيل الإطاحة بالرئيس، لأرى تغطيتها للحادث من أي زاوية يكون، فأعود بخفي حنين خاسئا حسيرا، لأن التغطية لم تكن موجودة أصلا... عفوا، بل لأن التغطية (مِن "غطّى يُغطي"، بمعنى ستَر يستُر) كانت كاملة، وبغطاء مسبل من قلة الرأس إلى ما تحت القدمين.
وهكذا، في اللحظات التي كانت تسيل فيها دماء المتظاهرين العزل أمام الحرس الجمهوري ومسجد المصطفى والمستشفى الميداني بمسجد رابعة العدوية في القاهرة، وسط الصدمة المرعبة والخوف والصراخ والدموع والألم، فضلت القناة الأولى المصرية أن تبث مسلسلا مصريا قديما، وفضلت قناة أون تي في أن تجتر تقارير مساء البارحة، وغرقت قناة العربية في وصلاتها الإعلانية المملة، دون أدنى إشارة من كل تلك القنوات وأخواتها في الرضاعة إلى جريمة فجر ذاك اليوم الدموي الرهيب، ولو بنصف كلمة في شريط أخبارها المتحرك أسفل الشاشة، ولو بخط حجمه 4 فقط، لا يقرؤه إلى من بصره حديد، من باب التعمية الذكية!
إن لم يكن هذا السكوت حدَّ البكم المطبق للصحافة المرئية الموجودة في عين المكان عن الجريمة جريمةً، فما هو تعريف الجريمة الصحفية؟ أوليس سكوت القنوات التي ابتهجت ابتهاجا تاريخيا بعزل مرسي عن الجريمة التي ارتكبها الجيش في حق أنصاره، قاتلا أزيد من خمسين من أبناء شعبه الذين بأموالهم يشتري رصاصه، أوليس سكوتها عن جريمة قتل شعبها مشاركة فعلية في الجريمة من حيث توفير التعمية الإعلامية المناسبة لها، لتتم في "أحسن" الظروف، وأبعدها عن الأنظار؟ ماذا لو لم تكن الجزيرة وبعض القنوات النزيهة حاضرة حينها؟ هنا فقط نفهم لماذا طالب الإعلام المصري البئيس بطرد الجزيرة: جِدُّك يفضح عجزي، ونزاهتك تكشف دخني.
المطالبة بطرد صحفية الجزيرة من المؤتمر الصحفي جاءت بعد عدة علائم تنبئ بأن الانقلاب الذي قاده اللواء السيسي كان انقلابا أيضا على حرية الصحافة بامتياز. وهكذا تم إغلاق كافة القنوات المصرية ذات التوجه الإسلامي، وخاصة ذات العلاقة بالإخوان المسلمين، بالتزامن الفعلي مع تلاوة بيان الانقلاب، وبلا تأخر ولو لدقائق، ثم بمهاجمة الداخلية لمقري قناة الجزيرة والجزيرة مباشر، وإغلاقهما وهما يبثان برامج على الهواء، مع فسح المجال على مصراعيه لكافة القنوات الأخرى التي لعبت دورا تحريضيا مسعورا ضد مرسي، كي تسرح وتمرح، بعد أن استفردت بالمشاهد المصري خاصة، رغم أن قيمتها الإعلامية (من حيث البرامج الخبرية والتحليلية خاصة) لا تكاد تتحقق... قنوات حرب إعلامية موجهة بامتياز، أين منها حرب بوق النازية جوزيف غوبلز، صانع البروباغاندا الهتلرية؟ وذاك مشهد آخر من مشاهد بؤس تلك الصحافة.
كيف لا يكون كذلك وقد تجند لتلك المهمة التحريضية غير الشريفة (ولنتذكر غياب ميثاق شرف للصحافة المصرية بعد ثورة يناير 2011) مذيعون، مجرد مذيعين، ظواهر صوتية سليطة اللسان، ليتحولوا بقدرتهم التواصلية الساخرة إلى محللين سياسيين، ومفتين دينيين، ومخططين اقتصاديين، باختصار إلى نجوم استغلوا جذبهم أنظار المشاهدين إلى برامجهم من أجل شحنهم شحنا لا يكل ولا يمل، إلى حد الانفجار.
وهكذا لم يتورع هؤلاء المذيعين الذين – يا للعجب – جمع بينهم ميثاق الكراهية للإخوان والرئيس مرسي من أول أيام انتخابه، عن ترويج الشائعات على أنها حقائق (كأشرطة من الأنترنت مجهولة الهوية، وأخبار مفبركة لا أساس توثيقيا لها)، والانحياز إلى طرف دون آخر، وطمس معالم مقابل إبراز أخرى، وغيرها من السلوكات التي تشين نزاهة الصحافي، وتحريه الخبر أينما كان، وعند من كان، وقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة، ولو على النفس والحزب والعشيرة والتيار، والتعادلية في تغطية الصورة كاملة، لأن النقل الصادق لجزء منها هو ضرب من التزوير، فأحرى طمسها، حتى لا تتحول الصحافة إلى صناعة للوعي الزائف، تروم تسطيح المتلقي، واستتباعه كأنه خروف في قطيع، وحشده حشدا، ولو إلى حتفه.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل أمر هؤلاء الصانعين لبؤس الصحافة بامتياز إلى درجة تكاد تصل رتبة اللاوعي الانفعالي (كالخِدر)، حتى أظهرت كثيرا منهم على حقيقته مكشوفا أمام ألوف المشاهدين وهو يتجرد من الموضوعية التي طالما ادعاها، ويبتهج ابتهاجا حد البكاء (كما فعل عمرو أديب) بإزاحة الجيش للرئيس المنتخب، أو حد الغناء كما فعلت هالة سرحان، والتي بالمناسبة بدت سعيدة جدا وهي تبث شريط إلقاء القبض على زملائها في قناة "الناس" بحجة وقوفهم في وجه الانقلاب! أو حد حمل شارة إسقاط الرئيس، أو غيرها من السلوكات التي لا تنم إلا عن مراهقة أيديولوجية تضر أشد الضرر بالشعب، لأنها تحوله إلى مجرد غوغاء.
كل ما سبق من علائم البؤس الصحفي لا يساوي شيئا أمام مساهمة رؤوس هذا البؤس في تركيع الصحافة أمام العسكر، ليتحولوا بضربة ساحر إلى صحفيين ضد الصحافة، كافرين بالديمقراطية أشد الكفر، مباركين انقلاب العسكر إلى درجة التبجيل، منزهين ما فعله "جيش مصر العظيم" عن اعتباره انقلابا، كأن "جيش مصر العظيم" ليس ركنا ركينا من نظام مبارك البائد، وهو قائده الأعلى؟ معبرين عن غاية الغبطة بصنيعهم، إلى درجة أن صحفية قناة "درايم" المذكورة أعلاه أقسمت بالله العظيم (نعم بالله العظيم) أنها ستدع الأستوديو، وتخرج لتحمل الضباط على كتفيها مع الحاملين... طبعا هذا الحمل له أكثر من دلالة رمزية في علاقة السلطتين: السلطة العسكرية المحمولة، والسلطة الصحفية الحاملة، وأظن الأمر واضح إلى درجة أن الفدم البليد يضحك لجلاء دلالته.