حنين إلى زمن بئيس
حنين إلى زمن بئيس
عبد الرحيم صادقي
حنّ صديقي إلى الماضي وكاد قلبه ينفطر حين ذكر أياما خلت. قلت له: أتدري أننا نحنّ إلى الماضي لأنه مضى، ولو عاد لكرهناه؟ قال: بل لأنه أجمل. قلت: أفكان كله كذلك؟ إنما تَذكر بعض لحظات. قال: كان الناس على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وكانت النفوس أنقى وأطهر. قلت: فماذا لو ذكّرتُك بما تكره؟ قال: ستكون لحظات معدودة، وهي على ندرتها أجمل إذا ما قيست إلى مثيلاتها في زمننا البئيس هذا. قلت: أفتذكر ما كان للآباء من هيبة في بيوتهم لا تُفهَم؟ أتذكر أن أباك رحمة الله عليه كان يجيب سؤالك ويشفي كل حيرة؟ أكان بين الأزواج مكاشفة وكلام صُراح؟ أما كان يُظلّ البيتَ ستارُ حياء في غير محله؟ أما كانت المشاعر تشكو جفافا وإن لم يفارقها الصدق؟ ولفرط هيبة الرجال ما كان أحدهم يقول لزوجه "أحبك" مخافة أن تُخدش هيبته. وهل كانت تطاوعه نفسه الأبية أن ينادي زوجَه باسمها؟ قال: صدقت والله! كان جهلا تَدثَّر بزيّ العلم، وحياء مغشوشا، ومشاعر متصلبة، يحسبها الجاهلون خلقا كريما.
قلت: أما تذكر أن الطفل في زمننا البئيس كان حينما يعثر فيقع منبطحا على الأرض تنهال عليه الأم بضربات جزاء وفاقا؟ قال: إي والله! وكأنما تبغي أن يكون الجزاء من جنس العمل! قلت: ألست تذكر أنه كان في كل بيت غرفة للضيوف مقدسة لا يطؤها أهل البيت، ولاسيما الصغار منهم؟ على حين يصطفّ الأطفال جنبا إلى جنب حين ينامون، قد افترشوا فراشا واحدا، والتحفوا لحافا يتجاذبونه، بالضبط كهيئة أولئك اللائذين بالملاجئ ذات حرب.
قلت: أتذكر كيف كان تعليمنا؟ كانت العصا تجبّ كل منهج تربوي. كنا نذوب فرَقا، ونتلوى رعبا. وأكثر عُقَدنا النفسية الآن سببها ذلك الزمان الذي تحنّ إليه. كان معلّمونا أكفاء صادقين، على قسوة لا معاذير لها. ولو بقيَت شدّتُهم إلى يوم الناس هذا لاكتأب أكثر أبنائنا أو قضوْا فرَقا لِما نرى فيهم من ضعف ولين. كنا ندرس أشياء لا ندري لِم، ونُمتحن في أشياء لا نعرف فيمَ تفيد. أوَتذكر كيف كان عطف الكبار على الصغار؟ أتذكر يوم طرَدَنا ذلك الشيخ المعمّم من المسجد لأن الصغار يومئذ ما كان يُسمح لهم بدخول بيوت الله. كان كل طفل -ولو مميِّزا على شرط الفقهاء- تُسوّل له نفسه اقتراف إثم الدخول طفلا مُريبا. كان عليه أن ينتظر التأديب. ولكَم أُخرِجنا من الصف الأول إلى الصف الثاني، ثم إلى الذي قبله، فإلى الذي قبله، فإذا نحن خلف المصلين كنُوق فارِدة، قد حجبوا عنا رحمة الله! ولأن الكبار كانوا ذوي هيبة، فما كانوا يجالسون الصغار أو يَطعمون معهم، أو يمازحونهم خشية أن يَبطل وضوء أحدهم. وويلك ثم ويلك لو جادلت كبيرا وأنت الصغير! قال: فإني أتحسّر على حماسة شباب ولّى. قلت: فهل كان مع الحماسة حصافة ودراية؟
قلت: أتذكر كم كان يشقى بعض أصدقائنا كل يوم حتى يبلغوا أقرب مدرسة؟ بعضهم يقطع فيفاء مشيا على الأقدام في حرّ وقرّ، وآخرون مفازة علّهم يجدون على الطريق هدى أو سيّارة تُقلّهم. كنتَ تراسل عزيزا، وإذا بالرسالة غدوُّها شهر ورواحها شهر. وحين يصلُك الردّ يكون عزيزك قد غيّر عنوان إقامته. وأمّه التي دعوتَه إلى عيادتها في مرضها الشديد قد توفّتها المنيّة. زماننا يا صديقي كان زمن كتم الأنفاس، وتقديس الحاكم بهواه، والخشية من الرقيب. ألم يكن يقال لنا إن للجدران آذانا؟ أما كنت تقصد ورّاق المدينة بحثا عن جريدة محترمة، وأنّى لك الخيار وهو مَحجّ المثقفين الوحيد؟ أما كنت تصاب بالغثيان ثم تكظم غيظك حين يبث لك تلفاز القوم نشرات أخبار بالأبيض والأسود، تحدثك عما فعل وليّ الأمر، وكيف حل وارتحل؟ ثم حين يحين موعد سلسلة راعي البقر تستلقي على ظهرك وأنت من العافين عن الناس. لم تكن غير خمس ساعات من البث بلا زيادة أو نقصان. يا لحماستنا منقطعة النظير ونحن نتابع ما فعل منتخب بلد المليون ونصف المليون شهيد، واللعبة في صبرا وشاتيلا حمراء قانية. في زماننا عزيزي هلك مظلومون في سجن الحاكم ظلما وعدوانا، وما وجدوا من يَذكرهم.
يا صديقي! إن النساء كن يتألمن في صمت، ولولا أن الله أفرغ عليهن صبرا وأوتين جلَدا وسماحة لاستحالت حياتهن جحيما. كانت إحداهن تموت في حيضة أو نفاس ولا يُعلم سبب موتها. تمرض ولا تشكو، ومن ذا يأخذ بيدها إلى الطبيب؟ كانت ترعى البيت وربَّ البيت وعيالَه مُضمِرة تحت جناحها علّة البدن والروح. لا تتخلّف عن موعدها الباكر كل صباح، ولا عذر لها في ملازمة فراشها إلا الموت. تُضرَب وتصبر، تُسجن في بيتها فلا تُجاوز ظُلّتها، وهي العفيفة الطاهرة إذا لزمته، والناشز إذا خرجت لقضاء بعض حوائجها. تُحرَم التعليم وإرثَ أبيها، ليتقاسمه الذكور، إذ هم وحدهم أبناء أبيهم! تتزوج المرأة فيذهب بها الزوج إلى بيت أبيه فيكون أهل الزوج كلهم أرباب قِوامة. ومن ذا يمنع الأب أن يؤدب كَنّته؟ أما الوالدة فلا تُردّ لها كلمة، ولا يُعصى لها أمر. أليس أبوه أبوها وأمّه أمها؟
ذلكم هو زماننا أيها الصديق، وهو زمان فضائل ولا شك! قال صديقي: يا الله! لقد كان زمننا بئيسا بحق! بل إنه زمن زامِن، فهل لنا أن نحلم بزمن جميل؟ قلت: زمننا الجميل حقا حين نجمع فضائل أمسنا إلى فضائل يومنا أيها الصديق! ولا سبيل إلى ذلك إلا بعلم سديد، وقبسات من الحكمة. ولقد أهديتك واحدة في بدء الكلام وسأهديك أخرى في نهايته. قال: فهات! قلت: الحنين إلى الماضي أمارة الخوف من قابلات الأيام غالبا. فتحرّر من خوفك!