حتى لا تتهشم قناطر النقل
كاظم فنجان الحمامي
تعالت هذه الأيام أصوات العواصم العربية القريبة من العراق, معلنة تشبثها ببنود الاتفاقية العربية المقترحة للربط السككي, في محاولة مكشوفة ومعروفة لتوسيع شبكاتها البرية والبحرية, وتطوير منافذها التجارية على حساب مصالحنا المستقبلية, وذلك من خلال استثمار نعمة الموقع الاستراتيجي, التي منحها الله للعراق وحده, وبهدف الاستفادة من قناطر النقل العراقية وعقدها البرية المتمركزة في بغداد, والمرتبطة منذ قديم الزمان بالقارات الثلاث (أوربا آسيا أفريقيا). .
نعمة ما بعدها نعمة انفرد بها العراق من بين البلدان العربية الأخرى, فاستحق أن يكون جسرا للعالم القديم, وقناة جافة للعالم الحديث, ونافذة مفتوحة في كل الاتجاهات ومطلة على البلدان المتحضرة, فالخصائص الجغرافية المتعددة, التي يتمتع بها السهل الرسوبي لبلاد ما بين النهرين, جعلت من العراق مركزا تجاريا تلتقي على أرضه قوافل النقل البري, وتمر به خطوط الشحن والطرق والمواصلات, وخطوط السكك الحديدية, وخطوط الأنابيب على اختلاف أحجامها وطاقاتها واتجاهاتها ومحاورها.
من هنا نهيب بمجلس النواب أن يتوخى الحرص والدقة, وأن يتعامل بحذر مع ما تحمله الاتفاقية المقترحة من تنازلات سخية ربما يقدمها العراق لدول مجلس التعاون الخليجي من دون مقابل, ومن دون أن يجني أي مكاسب اقتصادية أو اجتماعية أو مالية, فالربط السككي الذي تسعى له الكويت وجاراتها عبر الأراضي العراقية هو الحل الوحيد لإنعاش آمالها بتشغيل ميناء مبارك, وهو الوسيلة المكفولة لنقل تجارتها وتجارة البلدان الأخرى من حوض الخليج العربي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط بأقصر الطرق وأيسرها وأرخصها, ومن دون حاجة للالتفاف حول مضيق هرمز, وخليج عمان, ورأس الحد, وبحر العرب, وباب المندب, وقناة السويس. .
ينبغي أن لا نفرط بنعمة الموقع الاستراتيجي من دون مقابل, ومن دون تنازلات ملموسة تقدمها لنا الكويت وأخواتها على طبق من فضة, فالأرض أرضنا, والخيار خيارنا, وينبغي أن لا نكون جسرا مجانياً لعبور بضائع الخليج. .
ويتعين على مجلس النواب أن يستأنس برأي المؤسسات والمراكز الاقتصادية الوطنية, ويستعين بها في استشعار الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي قد تصيب موانئنا بالأضرار الفادحة, والتي قد تشل أنشطتها وتخرجها من الخدمة, وربما تؤدي إلى ارتقاء الموانئ البديلة على حساب موانئنا الوطنية الأصيلة, فما خاب من استشار وما ضل من استخار, ويتعين علينا أن لا ننخدع بمغريات الاتفاقيات الخبيثة, التي تحاول أن تمررها علينا جامعتنا العربية التي لا تجمع ولا تنفع. .
لقد اقتربت موانئنا العراقية كثيرا هذه الأيام من تحقيق أحلامها المؤجلة والمعطلة, وهي الآن في أفضل حالاتها الأدائية والتشغيلية والتطويرية بالمقارنة مع ما كانت تواجهه من صعوبات وعراقيل جمة ورثتها من كبواتها القديمة المؤلمة, التي رافقت متوالية الحروب الخليجية الخاسرة, فتراكمت عليها الأعباء الثقيلة, وعطلت نموها للمدة من عام 1980 إلى عام 2003, لكنها نفضت غبار الماضي واستعادت عافيتها, واستردت مكانتها, وهي في طريقها الآن نحو تنفيذ أكبر المشاريع المينائية في المنطقة, ناهيك عما حققته موانئها من مكاسب وموارد مجزية في المعقل وأبي الفلوس وخور الزبير وأم قصر. .
من ناقلة القول نذكر أن التعرفة المالية الضئيلة, التي سيحصل عليها العراق بعد استكمال الربط السككي مع الكويت ستكون هي القشة, التي ستقصم ظهر مشروع القناة العراقية الجافة, وربما تكون هي العبوة الناسفة التي ستطيح بطموحات موانئنا وتودي بتطلعاتها المستقبلية, وتحرمنا من فرص الارتقاء نحو مصاف الموانئ الجاذبة في المنطقة. .
تجدر الإشارة إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي لا قدرة لها البتة على تمرير بضاعتها إلى أوربا عبر الصحراء السعودية المقفرة, وعبر الهضبة الأردنية الوعرة, فأجور النقل وكذا المدة الطويلة, التي تستغرقها حركة الشاحنات البرية لا يمكن مقارنتها بمنافع الربط السككي عبر الأراضي العراقية. .
لسنا هنا بصدد استعراض النواحي السلبية والايجابية بين خطوط النقل المختزلة عبر الأراضي العراقية المنبسطة, وبين خطوط النقل المعقدة والمرهقة عبر الأراضي الوعرة التي لا تمر بالعراق. .
فالربط السككي مع العراق هو الخيار الأفضل بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجية, ما يعني إننا في أمس الحاجة للتريث والتأني قبل التورط بإعلان موافقتنا على أي قرار قد يضر بموانئنا, أو قد يدمر خطوطنا الداخلية, أو قد يحرمنا من الموارد المالية الكبيرة, التي يمكن أن نجنيها بالعملة الأجنبية الصعبة إذا ما تحلينا بالحكمة والتروي وأحسنا التصرف قبل فوات الأوان...