الثورات.. والاختراق.. والحماية..!
محمد السيد
قال تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً)) النساء: 60
لكل أمة مرجعية، تحكم خطوط سيرها، ومرجعيات الأمم في العالم مأخوذة عادة من دينها وتراثها وتاريخها وثقافاتها، حتى إذا زاغت إحدى الأمم عن ذلك فقدت شخصيتها وذابت في غيرها. وإن مرجعية أمتنا هي الإسلام وتراثه وثقافته وحضارته مع تأهيل كل ذلك للعصر الذي نعيشه. وإذن فثوراتنا التي ابتغت التغيير وكفرت بالطاغوت لا بد لها أن تلتزم تلك المرجعية، وإلا ضاعت وضيغت أمانة الاستخلاف، وقد بين القرآن الكريم مواقف الناس من ذلك: ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)) فاطر:32، وإن هذا الالتزام بالهوية هو الذي يحمي ثوراتنا من الاختراق والتبعية وهيمنة الآخر، وفي سبيل ذلك يجب اعتماد كثير من الخطوات النظرية والميدانية في هذا السبيل ومن أهمها:
1_ استعادة الثقة بالأمة وبما عندها من فكر وثقافة، وبث ذلك في الأجيال كلها.
2_ استخدام ثروة الأمة في سبيل مصالحها وإبراز حضورها وجعل كلمتها ورأيها مسموعين وفاعلين في الساحات كلها.
3_ العناية بالتعليم والإعلام، ليقوما بجد وثبات لبناء جيل معاصر، مؤسس فوق تاريخ طويل من الحضارة والعلم والثقة بالنفس والانفتاح على كل ما هو نافع من المنتجات السياسية والاقتصادية والعلمية والإدارية والتنظيمية، وذلك كله دون أن نصادم أصولنا وخصوصياتنا.
4_ وبناء على كل ما سبق من البنود، فإنه من أهم أولويات الحراك الإسلامي أن يعي كل تلك المفاهيم، ويبدأ من أول يوم لنجاح الثورات في المشاركة الفعالة لوضع لبنات صلبة لجيل جديد، وذلك بسلاسة الدخول او التوغل في أحشاء المشروع التغييري، دون افتعال أو تسرع أو مصادمة مباشرة مع التواضعات التي رسختها عقود وقرون من الهزيمة .
5_ إن العولمة الحقيقية الصالحة للبشرية جميعاً هي عالمية ديننا التي تبتغي الخير للناس جميعاً؛ فلا أنانية، ولا هيمنة، ولا نهباً، ولا سلباً للخصوصيات والثروات، وإن فكر الاستهلاك الداخل على الأمم جميعها بقوة، هو من أهم أدوات العولمة العصرية، وهو الذي كدس الثروات بأيد قليلة، وجعلها "دولة بين الأغنياء" وهم قلة، بينما الغالبية العظمى من البشر تعاني اللهاث وتكابده خلف سلعة أولئك القلة، فهم يقبلون على اقتنائها دون حاجة منهم لها، ويطرقون أبواب المؤسسات التي اصطنعها الأغنياء، ليقترضوا ويدفعوا ثمن الاستهلاك من أموال لا يمتلكونها، حتى إذا ارتفعت الأسعار، وازداد اللهاث خلف السلعة مهما غلا ثمنها، وعجز المستهلكون عن الدفع، وعجزت المؤسسات إياها عن الإقراض، ارتفعت نسب الفقر والبطالة، وراجت أخلاق دونية، فاستعر الانتقام والانتكاس في المجتمعات، وساد الإفلاس، وراحت الأزمة العالمية تطوق الرقاب في كل أنحاء العالم، الذي ظل منذ زمن طويل خاضعاً للدولار والجنيه، اللذين استحوذا _ ولزمن طويل _ على مقدرات الأمم وعملاتها ومعاملاتها، تدعمها هيمنة متوحشة، وقوة عسكرية واقتصادية طاغيتان أنانيتان، تعيشان بلا قيم نبيلة معيشة ترعاها قيم الاستهلاك وإغراق السوق بالسلع، ويمدها بنسغ الدوام اقتصاد السوق المبتدع المتغول، والعبور السلس لكل الحدود، عبوراً مفروضاًَ فرضاً بتوحش القوة.
6_ وإذن، فإنه ليس أمام استعادة شعوبنا لزمام المبادرة إلا باستعادة لحظة عالمية الإسلام وإنسانيته وسلامه، ولكن ذلك لا يكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة، وجدال بالتي هي أحسن، وبترقيق الكلمات على الأسماع، وبتخفيف ثقل المسؤولية على العقول، وبفتح الباب أمام الحوار على أشده، وباتساع أبوابه، مستخدمين كل وسائل العصر التقنية والفنية لإيصال الكلمة الطيبة إلى كل الناس، لعلهم يذّكّرون فيعتبرون، وذلك كله لتحصين مجتمعاتنا من هجمات مكثفة، تحمل الفكر الهيمني وكل الثقافات التي ذكرناها آنفاً، وهي التي تفتقر إلى القيم النبيلة، والحس الإنساني الجميل، والمساواة والشراكة في النظر إلى حضارة الإنسان، وأنها حضارة شاركت في بنائها_ على مدى الأزمان_ كل الأمم، وليس جنساً واحداً منهم، ادعى _ زوراً وبهتاناً_ أنه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وكل ما عداه وهم وخيال، مع أن هذا المدعي يحمل في جوف حراكه الحضاري من الأمراض والأوجاع ما يسير بالبشرية باتجاه الهاوية، إن لم تبادره بادرة الإسلام الفذة كما أسلفنا آنفاً، وهي قادمة إن شاء الله، فإرهاصاتها بادية أمام كل ذي عينين، وقد أصبحت تلك البادرة مطلباً عالمياً، وإن لم تذكر بصراحة القول وصافي الاعتراف اللذين يمنع بروزهما الكِبْر، واستمرار هيمنة الطامعين حتى اللحظة.
7_ولا ننسى أن نُذكّر في هذه العجالة أن خير وسيلة وأعظم آلية تحققان مطلوب إنقاذ البشرية وحماية مجتمعاتنا وثوراتنا من الاستحواذ عليها، ومن التبعية وهيمنة الآخر، أو من سرقة الثورات كما يقولون بالتعبير العصري.
أقول: إن خير وسيلة وأعظم آلية: أن نجعل من الثورات في بلادنا منطلقا ًإلى بناء مجتمعات نموذجية، يكون العلم فيها متقدماً، والتقنية عالية غالية، والهوية ملتزمة مطبقة، مزينين كل ذلك بالقيم والأخلاق والغايات النبيلة، التي تصنع للإنسان ملاذات آمنة في هذا العالم، الذي تحول في ظل المناهج الغربية العاملة إلى غابة. فإلى تلك القدوة والنموذج نسعى ونجتهد في السعي طالما أن الثورات قامت على أساس التغيير، ولا ننسى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وها هي النفوس مهيأة للانتقال إلى مواقع النصر والتقدم، وقد قال الإمام البنا _ رحمه الله_ يوماً:(إن عيدكم الأكبر يوم تتحرر أوطانكم، ويحكم قرآنكم)، وذلك إبعاداً للتحاكم إلى الطاغوت المحلي والعالمي، وتدبراً لقوله تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً)).