من ذاكرة التاريخ السوريّ في عهد الاستبداد

حتى لا ننسى

د. محمد بسام يوسف

[email protected]

لم يكن يوم الثامن من آذار وحده، عنواناً للاستبداد الذي تعيشه سورية منذ خمسين عاماً، فالليل الذي يُخيّم على الشام طويل، طوله بطول عمر القمع والباطل الذي ينوء بهما كرسيّ الحكم المغتَصَب، والمثقَل بالحديد والنار وأعمدة الفساد المتسلّطة على مقدّرات البلاد والعباد.. ليل بهيم حالك كوجوه المجرمين واللصوص الذين أهدروا كرامة الإنسان السوريّ، وباعوا شرف الوطن بأبخس الأثمان، في سبيل بقائهم وصمةَ عارٍ على جبين هذه الأمة المنكوبة بهم وبتسلّطهم وجبروتهم..

فهذا النظام إرهابي قاتل، وقد أثبت أنه عميد الإرهاب الإجراميّ في المنطقة، إذ يرتكب جرائمه الإرهابية في أي مكانٍ من العالَم بلا حياءٍ ولا خجل.. ومن ذلك: اعتداء زبانية أجهزته المخابراتية بالقنابل اليدوية والرصاص على مطعم (يا مال الشام) في دبيّ، الذي يديره بعض المواطنين السوريين، ما أدى إلى إصابة بعضهم بجروحٍ مختلفة، وذلك بتاريخ 1/3/1980م.. كما قُتِلَ بتاريخ 1/3/1969م (عبد الكريم الجندي)، رئيس مكتب الأمن القوميّ في القيادة القطرية، على أيدي قوات وزير الدفاع آنذاك (حافظ أسد).. وكذلك اغتيل اللواء (محمد عمران) في طرابلس لبنان، من قِبَل مجموعةٍ تابعةٍ لأجهزة المخابرات العسكرية للنظام، وذلك بتاريخ 4/3/1972م.. واغتالت أجهزة القمع الشيخَ (سليم الحامض) من جسر الشغور بتاريخ 10/3/1980م.. وتم اغتيال السيد (كمال جنبلاط) في لبنان من قِبَلِ عملاء النظام الإرهابيّ بتاريخ 16/3/1977م.. وبتاريخ 17/3/1981م، جرت محاولة لاغتيال الأستاذ (عصام العطار) المراقب العام الأسبق لجماعة لإخوان المسلمين في سورية، والنائب الأسبق في البرلمان السوريّ يوم كان البرلمان برلماناً حقيقياً، لكنّ المجرمين الأسديين المنفِّذين للعملية الإرهابية في (آخن) بألمانية، قتلوا زوجته السيدة (بنان الطنطاوي)، انتقاماً لعدم عثورهم على الأستاذ عصام في بيته الذي داهموه وانتهكوا حُرُماته!..

*     *     *

وهذا النظام مغتصِبٌ للسلطة بالانقلابات العسكرية، كان آخرها انقلاب وزير الدفاع (حافظ أسد)، الذي قام بسلسلة إجراءاتٍ مسرحيةٍ لتثبيت نفسه حاكماً للبلاد، فقد قامت قيادته القطرية المؤقتة -بعد نجاح انقلابه العسكريّ- بترشيحه مُرَشَّحاً وحيداً لمنصب رئاسة الجمهورية، وذلك إلى ما يسمى بـ (مجلس الشعب) الذي شكّله زعيم الانقلاب العسكريّ (حافظ) على عَينَيْه، وكانت هذه الإجراءات كلها تنفيذاً لاستبداد الحزب الوحيد الحاكم القائد للدولة والمجتمع كما يزعمون، ليقومَ مجلس (حافظ) وحزبه الذي أطلقوا عليه اسم: (مجلس الشعب)، باتخاذ قرار (البصم) على ترشيح (أسد)، وذلك بتاريخ 2/3/1971م.. وبعد عامٍ تقريباً، بتاريخ 7/3/1972م، أحاط (حافظ أسد) نفسه بالجدار المسرحيّ البهلوانيّ الأول، فشكّل ما يُسمى بالجبهة الوطنية التقدّمية، من مجموعةٍ من الأحزاب (الأثرية) التي انتهت مدة صلاحيتها، وغربت شمسها التي لم تُشرق أصلاً.. ثم أحاط نفسه بالجدار الثاني الذي وضعه وفصّله على مقاسه ومقاس حزبه وزمرته، إذ قام بصياغة دستورٍ  للبلاد، يكرِّس الدكتاتورية البعثية، ويرسِّخ خطوات الابتعاد عن تاريخ الأمة وعُمقها الحضاريّ العربيّ والإسلاميّ، وسَمّاه دستوراً دائماً، وأجرى له استفتاءً شعبياً صورياً بتاريخ 12/3/1973م، تحت قبضة قانون الطوارئ والأحكام العُرفية، ثم أقرّه قسراً على الرغم من الاحتجاجات الشعبية العلنية الواسعة في طول البلاد وعَرضها!..

*     *     *

وهذا النظام خيار إسرائيلي أميركي منذ نعومة مخالبه، وقد فرّط بالأرض والعِرض، ونفّذ –تماماً- عكس ما يُطلقه من شعاراتٍ جوفاء لا تزن المِدادَ الذي كتبها به قادةُ النظام وزمرته، الذين أهدروا كرامة سورية والسوريين عند أعتاب العدو الصهيونيّ وأمه الرؤوم: أميركة وحلفاؤها الغربيون.. وقد سجّل التاريخ أنّ شهر آذار كان موعداً لكثيرٍ من اللقاءات المشبوهة، والخيارات المذِلَّة التي اختارها النظام من غير الرجوع إلى شعبه في أيٍ منها.. فقد أعلن رئيس النظام (حافظ) -على الرغم من احتلال العدوّ الصهيونيّ لفلسطين والجولان وجنوبيّ لبنان- أنّ [السلام هو خياره الاستراتيجيّ الوحيد]، وأكّد ذلك لدى استقباله وزيرَ الخارجية الفرنسيّ الأسبق (دوشاريت) بتاريخ 6/3/1997م.. وكان (حافظ) قد استقبل في دمشق بتاريخ 13/3/1991م وزيرَ الخارجية الأميركي الأسبق (جيمس بيكر)، لبحث ما يسمى بعملية السلام مع الكيان الصهيونيّ.. كما استقبل الوزيرَ الأميركي (وارن كريستوفر) بتاريخ 13/3/1995م، الذي سلّمه رسالةً من الرئيس الأميركي السابق (بيل كلينتون) [حول عملية السلام بين سورية و(إسرائيل)].. وللأهداف نفسها، استقبل (حافظُ) مساعدَ وزير الخارجية الأميركي الأسبق (مارتن أنديكس) بتاريخ 14/3/1999م.. وكان (حافظ) قد أكّد بتاريخ 19/3/1992م، على [تصميم سورية على مواصلة عملية السلام مع (إسرائيل)].. كما كان قد استقبل لنفس الغاية بتاريخ 24/3/1994م، أي لبحث مهزلة السلام ما بين سورية و(إسرائيل).. استقبل مُنَسِّقَ ما يسمى بعملية السلام (دينيس روس)، ومستشارَ الرئيس الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط (مارتن أنديكس)!..

*     *     *

وهذا النظام أحاديّ فرديّ دكتاتوريّ، يبطش بكل مَن يخالفه الرأي، وينكِّل بكل مَن يطالب بالحرية والكرامة لشعبنا السوريّ، ويقمع كلَّ مَن يتجرّأ على رفع صوته رافضاً القهرَ والظلمَ والاضطهاد، فقد أقرّ النظامُ قانونَ الطوارئ بالأمر العسكريّ رقم (2) الصادر في 8/3/1963م، الذي ما يزال ساري المفعول حتى اليوم.. وقام بحملاتٍ واسعةٍ لتصفية ضباط الجيش السوريّ غير الموالين للحكم العسكريّ القمعيّ، اغتيالاً وتسريحاً وتهجيراً، وبذلك قام بتسريح مئةٍ وأربعة (104) من كبار الضباط السوريين بتاريخ 13/3/1964م، ثم قام بتسريح مئةٍ وخمسين ضابطاً من أصحاب الرتب المتوسطة، وذلك بتاريخ 16/3/1964، ونصّب بدلاً عنهم أفراداً من الطائفيين المنتَمين إلى حزب البعث.. كما قام (حافظ أسد) بتاريخ 8/3/1980م، بتهديد أبناء الحركة الإسلامية بالسَّجن والبطش والتصفية، في خطابٍ شهيرٍ خرج فيه عن اللياقة التي يتمتّع أو يتظاهر بها رؤساء الدول عادةً!..

*     *     *

وهذا النظام بوليسيّ فاجر دمويّ، يعرف جيداً أنه لا يستطيع الاستمرار إلا بأساليب القتل والإجرام، وبوسائل الذبح وسفك الدماء، فكانت المجازر الكثيرة التي ارتكبها خيرَ شاهدٍ على دمويّته وساديّته، ومن ذلك: اقترافه لمجزرة (جسر الشغور) الشهيرة بتاريخ 10/3/1980م، التي راح ضحيّتها أكثر من ستين (60) مواطناً سورياً.. وقيام أحد زبانية النظام (توفيق صالحة) بتلفيق تهمٍ باطلة، ثم بإصدار أحكامٍ بالإعدام على عشرات الشباب السوريين من جسر الشغور، بحجة معارضتهم للنظام الدمويّ، وقد نُفِّذت هذه المذابح من خلال محاكم عسكريةٍ مَيدانية، قنّنها (حافظ أسد) بقوانين جائرةٍ مخالفةٍ لأبسط حقوق الإنسان، بل لدستوره الدائم الذي فرضه على الوطن والشعب!..

*     *     *

وهذا النظام معتدٍ أثيم على حُرُمات الناس، ومستبيح لكل معاني الأخوّة العربية مع الأشقاء العرب، خاصةً بما ارتكبه في لبنان الشقيق من جرائم لا تُحصى، وقد ذكرنا آنفاً، جانباً من عمليات الاغتيال التي نفّذها هناك، ونضيف إليها: قيام قواته بقصف العاصمة اللبنانية بوحشيةٍ حاقدة، بتاريخ 30/3/1989م، ما أدى إلى اشتعال الحرائق الهائلة في خزّانات الوقود، وإلى انفجاراتٍ ضخمةٍ لخزّان الغاز السائل في بيروت، وإلى قتل وإصابة أكثر من مئة شخصٍ لبنانيٍّ بريء!..

*     *     *

لذلك كله، ولغيره، فإنّ هذا النظام المجرم مرفوض من شعبه منذ قدومه إلى السلطة بالانقلاب العسكريّ المسلَّح، وقد سجّل التاريخ السوريّ –قبل اندلاع ثورة الحرية والكرامة- أضخم موجات الاحتجاج الشعبيّ في تاريخ سورية ضد هذا النظام الفاسد، ومن ذلك: تنفيذ الإضراب العام الذي دعت إليه نقابة المحامين السوريين بتاريخ 31/3/1980م، التي تضامنت معها النقابات المهنية، ومن ورائها الشعب السوريّ كله، إذ التزمت كلُ المحافظات السورية بالإضراب، ما جعل النظامَ -برأسه وأزلامه- يفقدون صوابهم، فقامت أجهزتهم المخابراتية التجسّسية بحملات التصفية والدَّهم والاعتقال العشوائيّ لألوف السوريين في كل أنحاء سورية!..

*     *     *

في ظل هذا النظام الفاسد المجرم، يحمل شهر آذار إلى الشام ما تحمله شهور السنة كلها، فهي تحمل في كل يومٍ كارثة، وفي كل ساعةٍ مُصيبة، وفي كل لحظةٍ حزمةً من منتجات الاستبداد الأسديّ وفساده، وها هو ذا  شعبنا المقهور ينتفض ويثور ويدفع أبهظ الأثمان، للخلاص من هذه الزمرة الحاكمة الطاغية الباغية، وإعادة سورية إلى ألقها وكبريائها، واسترداد كرامتها ودورها المضيئ في المنطقة والعالم.