العمليات العقلية في القرآن الكريم
العمليات العقلية في القرآن الكريم
دعوة: لتوجيه طاقات الفرد والأمة
د. عبد الرحمن الحطيبات
مشرف اللغة العربية
مدارس الجامعة الملك فهد للبترول – الظهران
يهدف هذا المقال إلى بيان أهمية العقل والعمليات العقلية في توجيه طاقات الفرد والأمة نحو الإيمان بالله وخلافة الأرض وفق ما شرع الله.فما المقصود بالعمليات العقلية؟
يقصد بالعمليات العقلية تلك القدرات لذهنية، أوالحالات الفكرية للإنسان التي تدفعه للقيام بعمل مَّا، إذا ما توفرت له الظروف المناسبة للقيام بأدائه، كالعمل الحركي أو الفكري ، كما أنَّ القيام بذلك النشاط يرتبط بمدى استعداد الفرد لاستثمار وظائفه العقلية في رد الفعل للموقف، في إطار يتناسب سرعة ودقَّة مع طبيعة محفزات ذلك الموقف، أو الظروف المحيطة بالعقل, وإذا أردنا تبسيط هذا المفهوم في جملة فنقول: إنّ العمليات العقلية تشتمل على نشاط وتنشيط كل وظيفة من الوظائف العقلية المتعددة ونذكرها منها: الإدراك الحسي, الإدراك المعنوي , التذكر, القياس, الاستقراء, الاستنباط, التقويم, التفكر , التخيُّل، و التحليل، والتجريد، والاستدلال، والتمييز، و إدراك العلاقات الزمانية والمكانية. ومن الآيات الدالة على إفساح المجال للعمليات العقلية العمل والارتقاء في معارج السعداء قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [ الروم:24], وقوله تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [ الرعد:4], وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ النحل:12].
وتأتي أهمية هذه العمليات في كونها الأداة التي يستطيع الفرد من خلالها سلوك صراط الهداية المرجو منه في تحديد مهمتين هما: الإيمان و الأعمار للأرض .
ومما لا شك فيه أن هذه العمليات تتفاوت بين إنسان وآخر وهذا أمر مسلم به ،مع قابليتها للنمو والارتقاء وفق التدرب على ممارسة تلك العمليات من تفكر وتدبر وتأمل، والمتأمل في كتاب الله عز وجل يلاحظ أن الكثير من الآيات القرآنية تدعو الإنسان:
قال تعالى: ]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[ سورة الزمر ،39/9، وقال تعالى : ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[ سورة فاطر35/28
وقد أكدت كثير من الآيات إلى التفكير والتأمل والتدبر ؛ مما يتيح للفرد المسلم ممارسة المقارنة والموازنة بين الأشياء ،ويمهد له الطريق بالإشارات الاستدلالية إلى الأسرار الكامنة حوله في هذا الكون الرحب والمخلوقات المتنوعة, وهو طريق يفتح له آفاق علمية وإبداعية تعينه على الوصول إلى الحق .
قال تعالى : ] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[ سورة الحج22/46
ومما هو جدير بالتأمل أن نظرة القرآن الكريم للعقل البشري هي نظرة واقعية، دون إفراط أو تفريط . تؤكد بوضوح إلى أن الله جل وعلى قد جعل للإنسان عقلاً وجبله على التفكر والتدبر والموازنة بين الخير والشر واختيار الطريق الصحيح والتأثر بما يمكن أن يصل إليه من نتائج , كما أن القرآن الكريم قد قدر العقل واعتبره مناط المسئولية وركز على أهميته في بناء عقيدة المسلم وتصحيح مفهوم التوحيد والعبودية والتفكر في آيات الله, و على استخدام العقل ودعاه إلى التأمل في ملكوت الكون وتدبر آيات الله للتعرف على قدرته المعجزة، وتدبر أحكام التشريع الإسلامي وحكمته للاقتناع. وقد تم اشتراط العقل في كثير من الأمور كالأمانة والقضاء ، وإقامة الحد والشهادة واعتبار العقل مناط المسئولية والتكليف.
وقد رتب القرآن الكريم العمليات التي يمارسها العقل الإنساني للتوصل إلى حقيقة الأشياء ودعاه إليها في مواضع كثيرة من الآيات القرآنية ،وهي عمليات التفكير ، التدبر ، التذكر ،وهي عمليات تقود إلى "تطوير العقل وبناء العقل المسلم المرتب المنظم الممنهج عمليا بطريقة صحيحة ، والقادر على بلوغ درجات النظر والتدبر والاجتهاد وبلوغ أعلى درجات الفكر الإنساني
ويلاحظ على المنهج القرآني أنه دعوة للعقول للتحرر من جميع المعوقات التي تحول بينه وبين القيام بعمله التفكري والتدبري، وتحريره الشامل من كل القيود، والخرافة والتبعية ،والجمود.
وقد سعى القرآن الكريم من الوهلة الأولى ومن أول آياته عند بداية نزول القرآن الكريم بمكة ، لتحرير العقول من جميع أنواع الخرافات والمعتقدات التي لا تتناسب مع التكريم الذي خص به الإنسان بالقراءة باسم الخالق الأكرم الذي كرم الإنسان بالعلم ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) (العلق 1-5).
وقدم القرآن الكريم الإجابات الواضحة للإنسان عن الكون ومفرداته وفلسفته، وحقيقة خلقه،وكيف تتم إدارته وحركة القوة فيه, حقيقة خلق الإنسان ومآله بعد الموت, آلية السعي والتكفل بالأرزاق وتوزيعها, فلسفة خلق الإنسان ورسالته في الأرض, تصحيح الخرافات والتشوهات والتحريف الذي تعرضت له الكتب السابقة.
ومما هو جدير بالنظر تلك الدعوة الصريحة والمعلنة في مواضع من كتاب الله إلى ترك التقليد بجميع أنواعه و الاحتكام إلى العقل في قياس كل مسألة ، لا باعتبار ما اعتقده الآخرون.
قال تعالي: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونٌَ[ سورة البقرة،2/170
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية: يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد . قال الله تعالى منكرا عليهم ] آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [ أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ] لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[ أي ليس لهم فهم ولا هداية .
و القرآن الكريم يبني تربيته للعقل البشري على الاحترام لا لإجبار والإكراه ،وهو يدعو إلى الحوار والإقناع،ويورد الأدلة بمختلف أنواعها ،ويناقش الآراء المختلفة ليتوصل الإنسان بنفسه إلى الحقيقة وإلا فإنه يعلنها صراحة ،قال تعالى ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ سورة البقرة 2/256
فإذا كان الدين لا إكراه فيه ،فلا إكراه فيما سواه وهي دعوة صريحة في غالب آيات القرآن الكريم تدعوا إلى استخدام هذه العمليات من الإدراك الحسي و الإدراك المعنوي و التذكر و القياس والاستقراء و الاستنباط والتقويم و التفكر والتأمل في كل ما يعرض لها،وعدم الاغترار بالظواهر، فالحقيقة أهم من المظهر وعليها المعول، والحساب.
وأخيراً فإن الآيات الكونية مجال كبير من مجالات إعمال العقل بالتفكر والتدبر فيما أودعه الله من أسرار في هذا الكون البديع المتقن, وهي دعوة واضحة صريحة في ذلك يعلنها الباري جل في علاه : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ [ آل عمران:190], وهذا الموضع على وجه الإجمال, وفي مواضع أخر يفصل الله تعالى في ذكر الآيات التي هي مجال للتعقل حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [ البقرة:164], قال البغوي في تفسيره: " ﴿ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ﴾ ذوي العقول. ويذكر سيد قطب رحمه الله كلاماً جميلاً حول هذه الآية حيث يقول: " إن هذا الكون بذاته كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته; ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة; ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة وحساباً وجزاء إنما يدرك هذه الدلائل ويقرأ هذه الآيات ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات ﴿أولو الألباب﴾ من الناس
إن الكون وما فيه من الآيات العظيمة المنظورة وكتاب الله وما في الآيات المسطورة آفاق بلا حدود لإعمال جميع العمليات العقلية فيها والتي تجسد الصورة الأروع والحالة الأكثر تميزاً للتصور الإسلامي الراقي عن العقل والإنسان والحياة والمجتمع والأمة والكون والتي تحبب المخلوق في خالقه العظيم المبدع, والذي أحسن كل شيء خلقه , والذي و ليس من أبدع الكون سواه !!