شعب متحضر ونخبة متوحشة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

الاستفتاء على الدستور كان علامة على رقي الشعب المصري وتحضره ، ودليلا دامغا على توحش ما يسمى بالنخبة التي تعبث بدماغه ليل نهار عبر فضائيات اللصوص الكبار وصحف الضرار ومواقع الإفك والبهتان . كان الشعب المصري يقف في طوابير طويلة تحت البرد والمطر ، ويقدم العجائز والشيوخ والنساء درسا فائقا في الإصرار على أداء الواجب الوطني بالتصويت دون قلق أو ملل ، ودون أن تراق قطرة دم واحدة كما بشرتنا النخبة في أدبياتها الهابطة . قال كل مواطن رأيه بالقبول أو الرفض ، ولم يحدث تقطيع هدوم أو تهشيم رءوس ، بل كانت العائلة الواحدة تتوزع بين موافق ورافض دون أن يتغير العالم .

هذا الدرس البليغ الذي قدمه الشعب المصري المتحضر لم تستوعبه النخبة الشغوف بالشهرة والممتلئة بشهوة الكلام على الشاشات الفلولية والخليجية ، بل والرسمية ، والصفحات المسودة بالتدليس والكذب والتضليل ، ولكن النخبة تمادت في لغوها وهزلها وعبثها ، وأصرت على أن تعيش هستريا غير مفهومة وغير مبررة . الشعب يقول كلمته ، والنخبة تتهمه أنه أهبل ، وأمي ، وجاهل ، وتمادى بعضهم فوصفه بالبهائم !

هل يليق أن يوصف شعبنا الذي قيل عنه إنه يفهمها وهي طائرة بمثل هذه الأوصاف ؟ إن التنافس السياسي مطلوب ، والعمل لكسب الأنصار وتعميق الآراء مفهوم ، ولكن إهانة الشعب المصري غير مطلوبة وغير مفهومة ، وخاصة في وقت اسمه الثورة التي أطاحت برموز الطغيان والاستبداد والأكاذيب .

ما معنى أن يوجه أحدهم تهديدا لمرشد الإخوان : "هتتفرم أنت وجماعتك"، وما معنى أن يطالب أحدهم الأمم المتحدة بالإشراف على الانتخابات القادمة ، وما معنى أن يبشر أحدهم المصريين بالجوع لأن نتيجة الاستفتاء لم تعجبه ؟  وما معنى أن يسخر بعضهم ويقول : معركتنا القادمة  على البرلمان ( شكلها حتكون على البرطمان) ، وما معنى أن يهاجم  أحدهم  الرئيس الدكتور "محمد مرسي " ويسبه على الهواء دون مبرر مقنع ، وما معنى أن يظهر مقدم برامج على الهواء مباشرة ويواجه الجمهور بالقول أنا ( .....) كلمة سوقية ، ثم يوجه انتقادات عنيفة للتيار الإسلامي بكلمات "سوقية " أيضا ؟!!

إن بعض الذين يصطنعون الحكمة وهي منهم براء يشيعون ما يتمنونه من خلال تخرصاتهم عن الانفلات المقصود الذي يؤدي إلى تفكيك الدولة المركزية والانتقال إلي ما يسمى الدولة الدينية حيث لا وجود للقضاء ولا الشرطة ولا الجيش .. ثم يشبهون الإسلاميين بالنازيين ، لدرجة أنهم يفضلون احتلال الغزاة اليهود لمصر كلها على الوضع الحالي .. ويضيفون إلى ذلك كلاما سخيفا آخر عن الإرهاب الفكري والمادي المتستر بالدين. ثم يبشروننا بهجرة الأقلام والأدباء وسيادة النماذج المسطحة التي تلبي احتياجات التسلية كما نري الآن (؟!) .

أفهم أن تقوم النخبة بمحاولة الاقتراب من الشعب ، والنزول إليه ، وفهم مطالبه ، ومعرفة رغباته ، وإقناعه بوجهة نظرها ، والحصول على تأييده عبر الصناديق أما أن يقول بعضهم إننا سنتفق مع أنصار النظام القديم الفاسد لمواجهة الإسلاميين أو سنتحالف مع من نختلف معهم فكريا للحصول على الأغلبية وقهر التيار الإسلامي ، فهذا ليس تصرفا سياسيا سليما ، ولا تفكيرا نخبويا صحيحا . والتعبير عن ذلك تعبير فج يشبه خصومة تجري في إحدى الحواري الضيقة ولا يليق بمعالجة مصير وطن يخرج من تحت الرماد ، ومطلوب أن نرفع عنه الأنقاض والركام .

إن التحالف مع الفلول لإسقاط الإسلاميين ليس حلا سياسيا ، بل هو انتكاس وخسران وهزيمة ، فالفلول ومنهم كثير من أفراد النخبة المتوحشة ؛ لعبوا دورا كبيرا في أعمال العنف والشغب والمعارك التي جرت حول مسجد القائد إبراهيم والاتحادية ومجمع التحرير ومن قبل في محمد محمود والقصر العيني ومجلس الوزراء وغيرها ، لا يمكن أن يقبلوا بالثورة أو بالحكم الديمقراطي الذي يحقق العدل والرشد ، لسبب بسيط وهو أنهم لصوص . ولصوص من نوعية بشعة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث سماهم حلمي مراد ورفعت المحجوب بالقطط السمان ن وتحولوا في عهد المخلوع إلى الحيتان ، وامتلكوا البلد وما فيها من إعلام وتعليم وثقافة واقتصاد وتجارة وسياحة وعقارات ... بقوة القانون الذي كانوا يصوغونه عبر الترزية التابعين لهم والعاملين عندهم .

إني أتمنى أن يقوم المعارضون من النخبة المتوحشة  بعمل يحسب لهم بتشكيل حزب واحد أو قائمة واحدة يخوضون بها الانتخابات ، ويحرزون الأغلبية وفق مشروع متكامل يقتنع به الشعب المصري ويرى فيه تحقيقا لمطالبه وطموحاته . سوف أصفق لهم إذا نجحوا وحققوا الأغلبية وبدءوا في تنفيذ خططهم للتنمية والإصلاح وبناء الحكم الرشيد . أما إذا ظلوا في قصورهم العاجية يخاطبون الشعب من خلال الشاشات الليلية بلغة حنجورية يطلع عليها النهار فيمحوها ، فالأمر لا يحتاج إلى تعليق !

من غير المقبول أن تظل النخبة المتوحشة على تعدد منابعها وميولها أسيرة العهد الذي استطال ستين عاما ، وأجلسها على حجره طويلا ، فاستأثرت بالوطن جميعه من خلال التعبير عما يريده الحاكم الطاغية ، وأتاح لها وحدها الكلام والتفكير والتعبير والتقرير ، وكان أبشع ما تركته من آثار هو التهميش والإقصاء واستئصال كل من يخالفها الرأي والتوجه ، ولك أن تنظر في صحف العقود الستة الماضية لتعرف من الذي كان يكتب ويتكلم وينطق ، فمن كان اسمه مسطورا في الصحافة كان هو نفسه الذي يظهر على شاشة التلفزة ، وينطق من خلال موجات الإذاعة .

إن النخبة المتوحشة يجب أن تعترف بالأمر الواقع الجديد ، وهو أن الشعب صار صاحب الكلمة العليا ، ولن يكون هناك طاغية أو فرعون أو هتلر أو نيرون على أرض مصر مرة أخرى ، فالشعب المتحضر يعرف كيف يسقط الظالمين وأعوانهم بأسلوبه الذي دشنه اعتبارا من الخامس والعشرين من يناير سنة 2011م ، ثم إن فريقا أو جماعة أو حزبا لن يستأثر وحده بامتيازات من أي نوع ، لأن مطلب العدل صار يجري في الدورة الدموية للمواطنين جميعا ، ولن يضحك أحد على شعب عريق قوي موحد عرف قيم الحضارة منذ سبعة آلاف عام ، وأكدها بالإسلام ونظمها بقيمه وأخلاقه!