شيء عن البعث والطائفية ...

عقاب يحيى

كنت صغيراً عندما انتميت للبعث لاأـعرف غير الشعارات الجاذة، وتأثيرات الأكبر سناً ـ أخوالي ـ الذين يهزجون كثيراً بتلك الأشعار القومية الدافقة، ويصنعون من الكلمات أحلاماً لها أجنحة كبيرة ..تطير في دنيا العرب الواسعة وترسم غداً آخر مختلف عن ىالتخلف والتجزئة والاحتلال والاستبداد .. و ..

كان زمناً نهضوياً.. تقترب الآما

ل من الأرض.. فعانقنا الوحدة تفتح قرائح إعجاز الحماس.. نلهث راكضين كي نمسك بعضها، وبالظن أن القادم عصر جديد للعرب من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر...

ـ لكن، ولأننا ننتمي لعشق الكتب والأحرف وتفصيص النقاط.. حاولنا الإبحار أبعد من الموج الصاخب.. فهلّ نوع من خوف، ورحنا نلتقط كلمات الكبار المثقلة بالهمّ.. والرعب من أصحاب الألبسة الخاصة" الشعبة الثانية".. فرنّت في الذهن كلمات ذات وقع محفور : " للحيطان آذان"، وانتبهوا، واغلقوا افواهكم....وحين سحبوا، أو شحطوا أستاذنا في الخامس الابتدائي.. الشيوعي.. الذي كان رمزا لدينا.. هجمنا عليهم وهو يناشدنا فكّه من بين ايديهم.. غمرناهم بأحجار الحماس والتأثر، لكننا ما قدرنا على تخليصه من بين ايديهم.. فاهتزّت صور الوحدة.. وحدث الازدواج ...

*****

كبرنا في البعث.. فكبر وعينا، ومعه همّنا، وتلك المفارقة التي تتسع بين النظري والتطبيق . بين الحلم والواقع. بين الإيمان وصور التناقض، فرحنا نبني المراهنات.. على اليسار والتحول.. القادم والممكن.. الشباب وما يقدر.. فحصل ازدواج أكبر..

ـ ولأن الموضوعات كثيرة..وقفت الحالة الطائفية في بلعوم التحليل، كأنها لغم من النوع المخيف.. القابل للانفجار إن حاولت ملامسته، والممكن تشظيه إن تركته داخلك.. فداخ التحليل.. وتعددت الاتجاهات .. وحدث الاختلاف والاختلاط.. ووجد الهروب في التحليلات الطبقوية، والتفسيرات اليسراوية، واعتناق الكلمات الكبيرة، والشعارات الأكبر مخرجاً، وتسكيتاً.. لكن الواقع أكبر، والسوسة تنغل في الجسد، والظاهرة تتجاوز الإحساس إلى التوغل في الشرايين، والرأس ..

ـ أكيد أن الإيمان بوحدة الأمة وتحررها وحريتها، وبالعدالة الاجتماعية نهجاً وممارسة وقوانيناً كانت جاذبة، واقوى من كل الذي يجيء دونها.. فلم يك معظمنا مؤمناً بانتماءات أقل من الوطن، والتقدم، وبعضنا ذهب أبعد إلى الأممية.. والشيوعية.. فكيف سيسجن نفسه في حاكورة ضيقة تنبعث منها روائح الماضي الذي تخثر من قرون ؟؟.. كيف لمنتم لأفكار وحدة العرب وتحررهم أن يهبط، أو يسقط إلى ما يعتبره أسفل سافلين.. ؟؟؟....

ـ لكن مُبهمات كثيرات راحت تحكي عن نفسها. تقشّر الشعارات المرفوعة لتُظهر ما تحتها : ذاك القابع في العمق، أو في مخزون التنشئة، ومؤثرات البيئة، وربما في جيوب الاتجار والاستثمار والتوظيف .. بهتنا لبعض المظاهر التي راحت تتورم وتنتفخ ثم تبتلع العديد من تلك الأحلام والأفكار..فحاولنا التفسير والتأويل. التبرير والتلطيف.. وحين كنا نقترب من ملامسة السوسة ـ اللغم.. كان الكثير يتهيّب، وللتهيّب أسباب متداخلة، فيصمت، أو يكتفي بالهمس، ولغة الهسّ، أو بممارسة تلك الازدواجية التي تكبر بين كومة المخاوف وإتقان التكرار ..

ـ وأعلنها الطاغية الأكبر بوضوح.. وإن لفها بالموجبات المزيفة.. مع ذلك.. ظلّ الخَفَر من التحليل العميق سيد النقاشات التي كانت تدور، واستمر الاختلاف في تقويم طبيعة نظام الطاغية....وهل يمكن الاكتفاء بالتحليل الطبقي كي نخرج بنتيجة أنه نظام : برجوازي ييرقراطي، طفيلي، برجوازي صغير، ارتدادي، دكتاتوري، أمني، فردي، عائلي.. إلى آخر تلك التوصيفات.. أم أنه يحمل في صلبه جنيناً، بل مكوّناً طائفياً منذراً(وحشاً نهماً ومسعوراً) اعتمد عليه، وطوّره، وموضعه، ثم راح يتمدمد في الداخل والمحيط كالسرطان، لكن وفق تلك الجُبلة التي انتقاها للتعمية والاختلاط، والتغرير ؟؟..

ـ التوريث فقأ كل العيون، ومع ذلك ما يزال هناك من يصرّ على تركيب عيون صناعية، والثورة كشفت كل البثور والدمامل والاستناد.. وما يزال هناك من جميع المكونات من يمارس التشبيح، والتلفيق..

*****

ـ نعم إنه نظام طائفي، لكن الفرق كبير في أن يكون نظام الطائفة العلوية.. لأنه بواقع الحقائق لا يمثلها كلها، ولأنه يبغي نخرها ونحرها، ولأن كثراً من أبناء تلك الطائفة يعارضون، ويعرفون طبيعته، وبعضهم قدّم حياته في مشوار التصدي له، وبعضهم خائف من مصير قاتم لا ناقة لهم فيه ولا جمل.. وبعضهم قلق من غد يُراد دفعهم إلى أن يكونوا كبوش فداء لمحرقة ليس لهم أي مصلحة فيها..

***

نجح الطاغية الأكبر في اغتصاب شرف وتاريخ البعث، وتلويثه، وتحويله إلى ممسحة للقاذورات والفتك وكل الموبقات.. حتى أن كثير البعثيين الصادقين، المؤمنين بمبادئه باتوا يخجلون من الذي جرى باسمه وتحت يافطته، وهم يعلمون أنه بحاجة إلى مغاسل من النوع النادر كي يطهروه مما لحق به... وبالوقت نفسه فإن الطائفة، وبغض النظر عن رفض كثيرين سجنهم في أطرها، أو حسابهم عليها، بحاجة إلى عمل جدّي ونوعي كي تتبرّأ مما يمارس باسمها، وكي تعزز موقعها الطبيعي : مكوّناً من مكونات شعبنا على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الثورة والمرحلة القادمة ..