طاقات متفجرة

يسري الغول

[email protected]

جلست إليه في مقر الصحيفة التي يعمل فيها. تحدثنا في هموم الوطن والمواطن، حتى طلب مني صديقي ذاك أن يقرأ لي شيئاً يكتبه منذ أسابيع، فوافقت وجلست منصتاً. كان يقرأ وهو يعيش تلك الحالة التي يمارسها محترفي الكتابة، وكنت أعيش معه عوالم المخيم وحياة الطفولة. كان المعاناة تخرج من كل كلمة يخطها في دفتره، يعيدنا إلى أشيائنا الصغيرة وأوهامنا وهمومنا وأحلامنا وحياتنا المسطحة.

صديقي هذا يكتب دون أن يسعى لنشر أعماله، فهو يحتفظ بها لنفسه كغيره المئات إن لم يكن الألوف حتى طلبت منه أن ينشر بعضاً من تلك الأعمال؛ فوعدني رغم تردده، ولقد عدت به إلى بدايات الإبداع عند كثير من الكتاب. فلقد كان كثير من الأدباء مغمورين ولم يكونوا ذوي بصمة في عالم الإبداع الأدبي، لكن ما أن نشر هؤلاء أعمالهم حتى ذاع صيتهم كليلى الجهني التي كتبت الفردوس اليباب ورجاء الصانع صاحبة رواية بنات الرياض التي أحدثت ضجة في حينه. كذلك لو عدنا إلى إدوارد الخراط فإننا سنكتشف بأنه بدأ يكتب في عامه الأربعين وهو اليوم من أبرز الكتاب والأدباء العرب، فهو صاحب رواية حكاية راما والتنين التي تصنف كأحد أفضل الروايات العربية على الإطلاق.

إن لدينا الكثير من الطاقات الإبداعية ولكنها مغمورة دون وجود حاضنة حقيقية تبرز هذه الأعمال وتدعمها كي تقف على أقدامها، فالمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في فلسطين لا تولي الأدب اهتماماً كبيراً، وذلك بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية. رغم أن الأدب يعتبر أحد أهم ركائز المقاومة ضد المحتل، ولقد قرأنا لغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وإلياس خوري وهارون هاشم رشيد وتوفيق زياد وغيرهم الكثير فعرفنا المحتل وغضبنا منه وبكينا على شهدائنا داخل تلك الروايات والقصص والقصائد.

الأدب لم يتوقف يوماً عند قضية بعينها، فقد سبق القضية الفلسطينية الكثير من الثورات الأدبية ضد المحتل فروايات الجزائر القديمة التي كانت تحارب المحتل بصوتها كاللاز والشهداء يعودون هذا الاسبوع للطاهر وطار وروايات أخرى لكتاب متعددين كانت رصاصة في قلب العدو أياً كان لونه أو جنسه. حتى الأدب الافريقي مثلاً كان يمثل صوت الفقر والمرض والقحط لنبكي الجوعى. وكانت معظم أعمال نجيب محفوظ تأخذنا إلى الموظف البيروقراطي والحياة ذات الرتابة المقيتة، وكانت أعمال بورخيس وماركيز تصف حياة مواطني أمريكا اللاتينية ومعتقداتهم حتى وسم أدب تلك البلاد بالواقعية السحرية.

الأمر لم يتوقف عند هؤلاء، فباتريك زوسكنيد مثلاً كان مجرد ممثل هاوٍ، وحين عرضت له مسرحية ذات مرة على أحد المسارح الألمانية، ونالت استحسان سكرتيرة إحدى دور النشر طلب زوسكيند من السيدة أن تقدم روايته للعرض على الدار إن كان يجوز نشرها، فصارت فيما بعد أحد أشهر روايات الأدب، ألا وهي رواية العطر، وصار هناك المدرسة الزوسكندية في الأدب الأري. ترى لو كان صديقي هذا في بلد كألمانيا، هل كان سيظل مجرد كاتب مغمور؟ أم أنه سيصير صاحب مدرسة للأجيال القادمة؟

الأدب تصريح لدخول عوالم هؤلاء، وفلسطين بحاجة لبوابة لعقول وقلوب سكان هذا العالم، فاغرسوا الإبداع في عقول الجيل القادم.