المرحلة الأخيرة للاستبداد
أ.د. محمود نديم نحاس
جامعة الملك عبد العزيز
كثر الاستشهاد في مواقع الإنترنت بعبارة منسوبة إلى عبد الرحمن الكواكبي (المولود في حلب سنة 1271هـ والمتوفى في القاهرة سنة 1320هـ)، مع ادعاء أنها وردت في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، غير أني لم أجدها في هذا الكتاب، فلعل ناقلها قد أخطأ في نسبتها للكواكبي، أو لعلها موجودة في كتاب آخر من كتبه، أو نسخة أخرى غير المتوفرة لدي. والكتاب كاملاً متاح في موقع (ويكي مصدر) وهو أحد مواقع مشروعات ويكيميديا التي من أشهرها موقع ويكيبيديا. وقد فصّلتُ الحديث عن مشروعات ويكيميديا في بحث قدّمته في الملتقى الرابع لأبحاث المدينة المنورة، في شهر جمادى الآخرة من هذا العام.
تقول العبارة: "والمشكلة كما ذكرتُ آنفاً أن فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمارُ الأرضَ والناسَ والديار، لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضرب عشواء، كثور هائج، أو مثل فيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال. وكأنما يُستَحَق على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)".
وفي الحقيقة فإن ناقل العبارة قال في أولها: عن عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد، أي إنه استخدم أسلوب العنعنة الذي تحدثتُ عنه في مقالي السابق المنشور في صحيفة تواصل الإلكترونية.
ومن يدقق النظر فيما يجري في بلاد الشام هذه الأيام يرى أن هذا توصيف دقيق لما يجري هناك، وهو أيضاً ما فعله المستعمر الفرنسي قبيل جلائه عن سوريا بعد الحرب العالمية الثانية. فهل في هذا إرهاصات لزوال دولة الاستبداد وحصول الناس على حريتهم بعد معاناة طويلة دامت تسع وأربعين سنة، (منذ سنة 1963م)؟ نعم لقد دفع الناس ثمن سكوتهم على الظلم، بل علّق بعضهم بأنه ثمن سكوت الآباء والأجداد أيضاً، وسألوا الله أن تكون الثورة الحالية شافعة عند الأبناء، فلا يلومون الجيل الحالي، بل تكون هذه الأحداث عبرة للمستقبل.
وقد وصفها بعض المعلقين بأنها رقصة الذبيح أو رقصة الموت، يقوم بها الظالم على أمل أن يخاف الشعب أو يرضخ من كثرة القتل. وأشار معلقون آخرون إلى أن المتظاهرين السلميين الذين واجهوا الدبابات بصدورهم العارية هم الأشجع والأقدس وهم الذين أشعلوا الثورة.
وقال معلق: ماذا يفعل شعب أعزل في مواجهة خصم غرز أنيابه في رقاب الناس؟ ويضيف: لا أستطيع تحميل الشعب مسؤولية ما يجري! لا أستطيع أن أطلب من مريض منهك أن يهزم جنديا مدججاً بالسلاح! وروى آخر ما حصل لثلاثة طلاب من كلية الطب كانوا يسعفون جرحى الثورة، حيث اعتُقلوا وعُذّبوا وحُرقوا ثم قُذفت جثثهم في الشارع! إنها وحشية ربما لم يشهد لها التاريخ مثيلا!
لقد انكسر حاجز الخوف وانتشرت الثورة، وصارت تكلفة التراجع عنها
أكبر بكثير من الاستمرار فيها. إنها نقطة اللاعودة بعد أن تساوى الموت والحياة عند
الناس، فقد قال جنود النظام: الأسد أو نحرق البلد، وكشفوا اللثام عن وحشية وتطرف
وتجاوز لكل الخطوط الحمراء.
ومن التعليقات أيضاً أن المستبد هو من إنتاج مجتمعه، لكن
معالم الطغيان واستفحال الظلم لا تظهر على المستبد إلا بعد مرور فترة من الزمن تكيف
فيها الشعب على الرضوخ والإذعان. وينهار النظام المستبد بعد أن يبلغ ذروة التآكل من
داخله نتيجة الفساد المستعر من الطبقة المتعفنة من سدنته. وأخيراً يقول معلق:
الإسلام عاب على المظلوم رضاه بالظلم. وفلسفة انتظار عقاب الظالم بشكل إلهي معجز
ليس لها مكان في الدين الاسلامي.