ذكريات الشباب مع المذاكرة والكتاب
تجارب ناجحة في تحصيل العلم
د. نعيم محمد عبد الغني
الاطلاع على السير الذاتية للعلماء والنابهين من الوسائل التربوية المهمة، ويأتي سردها من منطلق قرآني، حيث به من القصص المختلفة ليستفيد منها الناس، قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
ومن ثم نلاحظ أن هناك علما من علوم التراث يسمى بعلم التراجم والرجال، وهو إن أكثر التصاقا بعلم الحديث إلا أننا نلحظ أن لكل علم تاريخا، يحدد نشأته، ويذكر قصته، يتعرف الأجيال رحلة التطور في العلوم، فيستفيدوا من أخطاء الآخرين، ويتعلموا من التجارب الناجحة ويضيفون عليها لبنة في صرح العلم والحضارة والتقدم والرقي.
وهناك عدة حكايات من عصور مختلفة حتى عصرنا الحاضر، كل منها تمثل درسا مهما
أحمد أمين
تتردد في الآونة الأخيرة المقولات التي تسبح بحمد الفهم، وتلعن الحفظ، وهذه المقولة ليست مبنية على أساس علمي متين، وفهم صحيح مبين، بل هي تكرار لدعوات لا يدرى مصدرها، ولا يعلم مخبرها، فقديما قال علماؤنا: (من حفظ المتون نال الفنون) وتفننوا في صياغة العلم في صورة منظومات يسهل حفظها وفهمها، فمثلا يذكرون حافظ القرآن أن كلمة اللهو تأتي سابقة على اللعب في موضعين فقط من القرآن الكريم فيقولون: (اللهو قبل اللعب يا من تموت في الأعراف ثم في العنكبوت) مشيرين بذلك إلى قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا )، وإلى قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) في العنكبوت.
فالحفظ كما بينا سابقا يكون تاليا على الفهم، وكان الأستاذ أحمد أمين يقول أقرأ الفصل فأديره في رأسي ثم أقوم بتلخيصه وكتابة تعليقاتي عليه بالقبول وبالرفض، وإبداء رأيي فيه، وكان العقاد يقول أحب قراءة الكتاب أكثر من مرة، وهذا أفض من أن أقرأ كتبا كثيرة.
ومن الطريف أن نذكر أن الحفظ من غير فهم لا يجدي، فقد كان لي زميل في الجامعة يحفظ الكتاب كلمة بكلمة فيقول مثلا: (النقد..النقد... النقد) يظل يكررها، ثم يقول الأدبي ويظل يكررها ثم يجمع بين الكلمتين، ويظل هكذا حتى يصل إلى آخر الكتاب وكان يرهق نفسه كثيرا بهذه الطريقة، وتكون النتيجة أنه يرسب أو يكون نجاحه ضعيفا باهتا، فهو يحفظ على غير هدى، وبغير فهم، فلا قيمة في حفظه، لأنه سرعان ما ينسى، وعلى العكس أرى غيره يلعبون كثيرا، ثم يركزون ويفهمون، ويكون حفظهم أسرع وأدق وأضبط، وحصلوا على درجات عليا، وكثير منهم الآن يعملون في الجامعة وحصلوا على الدكتوراه.
الشيخ الغزالي
يتعلل بعض الطلاب اليوم بضيق ذات اليد وأنهم لا يجدون ما ينفقون على الدروس الخصوصية، وقد كان العلماء السابقين لا يعرفون لها طريقا، بل لا يجدون حتى الكتب التي يذاكرونها فيضطرون إلى التركيز مع المدرس واستعارة الكتب ونسخها، أو مذاكرتها جيدا، ويحكي لنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فيقول: (كانت الأحوال التي تكتنفني رديئة، لا أذكر أنني ملكت كتابًا طول السنوات الأربع، وأنّى لي ذلك؟
وعندما عرض علينا شرح النووي لصحيح مسلم بنصف جنيه مقسطًا على عشرة شهور؛ هززت رأسي بأسًا، وقلت: ما معي يكفي للأطعمة والملابس...! واختفيت دون أن يشعر بي أحد!
أحمد زويل
في حديث للدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل يذكر كيف تربى وتعلم، وكيف وصل من قريته الصغيرة في إحدى محافظات مصر إلى العالمية، فيقول: إن تنظيم الوقت شيء مهم جدا في حياته، وأكثر شيء يساعد على تنظيم الوقت الصلوات الخمس، والارتباط بالمسجد في خمسة أوقات يساعد على تجديد النشاط والحيوية.
واضطرني هذا للإنصات بعمق إلى شروح الأساتذة، وكنت استحضرت من دكان أبي بعض الأوراق التي تُلف بها السلع، لأدوِّن فيها ما أرى ضرورة تدوينه.
وربما جالست بعض الزملاء الذين يملكون كتبًا لأتثبَّت من حكم أو أستذكر ما نسيت! وكم نسيت من قضايا وحقائق! وأورثني هذا خلالاً أصبحت طبعًا ثانيا؛ صرت كالمكفوفين الذين يعتمدون كثيرًا على ذاكرتهم.! وتعلمت الاقتصاد في الأوراق، فليس هناك مبيضة ومسودة، هي ورقة واحدة تلك التي تكتب، والتي ستقدم للمطبعة فيما بعد وهذه الورقة لا يترك فيها فراغ، ينبغي أن تُستغل من أولها إلى آخرها...! حتى بعد أن أفاء الله وبارك، بقيت هذه الخلال تغلبني...).