مولد سيدس المُنْحل
قدري شوقت محمد الراعي
كنت برفقته الطيبة وهو جالس علي أريكة متواضعة بمنزله , يتابع عن كثب باهتمام لا يخلو من متعة
طفله الجميل , ذا الأعوام الثلاثة والقسمات المليحة , وهو مستغرق بانتشاء برئ أمام جهاز الحاسوب
في إدارة لعبة (جاتا6) ...
أصابعه الصغيرة تحرك الفأرة وتقرص أزراراً في لوحة المفاتيح بطريقة تنم عن ذكاء مبكر.
لا يكف الصغير في عفوية وبراءة عن اصدار الضحكات والتعليقات والحركات الطفولية ..
أثارتني حالة الرجل ...لم أكن منجذباً إلي الطفل الجميل قدر انجذابي إلي الأب الذي سرت فيه طفولية
الإبن وحماسه المندفع ...فبدا أمامي كطفل كبير ..!
يجالس صاحبه في حميمية ولا يبخل عليه بين الفينة والفينة بالنصيحة التي تعينه علي إدارة اللعبة
بنجاح ....مسكين هذا الرجل إن قلبه مولع بحب صغيره..!
مضي وقت غير قليل حتي انتهت اللعبة , وفارق الرجلَ هزلُه , ومضي الصغير إلي أمه غائباَ عن ناظري
فهمست في أذن صديقي الثوري: " هيم ..ها نحن الآن ..أنا وأنت "
فأجابني ضاحكاً :"أجل ..نحن الآن , أنا وأنت "
فتلبستني روح المحاور –كعادتي كلما انعقدت إرادتي علي إدارة حوار معه- وقلت سائلاً: " هل سمعت
آخر الأخبار ؟"
قال في نبرة مطعومة بالتهكم ولكنها مريرة أيضاً :" أي أخبار تقصد ؟!! ..إن بلادنا مصر منذ إندلاع
ثورة الخامس والعشرين من يناير وهي في حالة مخاض يومي , كل يوم تلد ألف خبر , كل يوم تفقس
ألف بيضة ...فلا خبراً يسر , ولا بيضة صالحة ..!!
وما فتئت فصائل الوطن الثلاثة ( الحكومة-الأحزاب-الشعب ) التي تتباري في الإمساك بأوراق اللعبة
وتصدر المشهد السياسي تنضوي تحت نفس الحكمة السياسية القديمة :"الحكومة تصنع الأزمة , والأحزاب
تتاجر بأحلام الوطن , والشعب بين هذا وذاك ضائعة حقوقه , مهدرة كرامته "..!
إن سماء مصر غائمة ياسيدي , وحالة الوطن عموماً لا تسر عدواً ولا حبيباً..وثورة المصريين نجحت في تقويض أركان النظام الفاسد , لكنها فشلت في أن تثور علي نفسها , وضعفها , وأهوائها ..!
فأي الأخبار يا صاح تقصد ؟!"
وفترت همتي لكلامه السوداوي...لكني أسرعت أقول مشجعاً له ولي أيضاً :"يا أخي تفاءلوا بالخير تجدوه"
فتبسم ضاحكاً وقال:" ها أنت ذا تردد مقولة زوجتي "
شجعتني ابتسامته التي تكشف ما إن تلوح علي الوجه الضحوك عن غمازتين غائرتين فقلت له :"الناس في مصر الآن لا حديث لهم سوي عن قانون "الغدر" والمطالب الشعبية التي تنادي بضرورة عزل وإقصاء
أعضاء الحزب الوطني المنحل من المشاركة في الحياة السياسية حفاظاً علي أهداف ثورة 25 يناير ومكتسباتها "
فاستدار إلي كلية , وقد اكتسي ملامحه الإهتمام وعادت إليه للتو ثوريته , وقال:" أجل , أجل هذا مطلب شعبي
عادل وشرعي تقتضيه الضرورة الملحة , ويحتاجه مناخ البلاد الراقد فوق حمم بركانية في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر ..!"
كنت أعرف مسبقاً أنه سيميل إلي هذا الرأي لأنه رأي ثوري نابع من ثوريته المخلصة . ولكني شرعت أقول
وأنا أدرك أن مقالتي سوف تثير حفيظته : " معذرة يا صديقي إني أختلف معك هذه المرة , فالرأي الداعي إلي
تطبيق العزل السياسي علي كتيبة الحزب الوطني المنحل رأي مخالف للشرع لأنه ببساطة يتعارض مع مبدأين
نبيلين من مبادئ الإسلام ... "
أولهما : لا يحاسب شخص بجريرة غيره .
والله تعالي يقول :"ولا تزر وازرة وزر أخري"
ويقول: " كل امرئ بما كسب رهين"
وثانيهما : حرمة إطلاق الأحكام وتعميمها علي الناس لا سيما في أمر مشاع وقضية عامة , يحتاج التثبت منها
إقامة البينة القاطعة والحجة الدامغة , لذا فليس من العدل مطلقاً الإدعاء بأن (قانون الغدر) مطلب عادل وشرعي تدعو إليه الضرورة الملحة اللهم إذا كنت تقصد مصلحة الأحزاب الأخري لا مصلحة المصريين أنفسهم "
هنالك بدا لي الرجل غاضباً , وثارت ثائرته , واندفع يقول في ثقة كاملة كأنما يدافع عن قناعات مقدسة
أو مسلمات فطرية لا ينبغي التشكيك فيها :" إن التجربة السابقة أيها السيد الفذ.. قد أثبتت للناس جميعاً
أن الحزب المطعون في شرعيته الذي وضعه صندوق الانتخاب المعجون بالتدليس والتزوير علي سدة
الحكم والسلطة والنفوذ ..ومنحه النظام الفاسد بركته ودعمه ورضاه ..هو المسؤول الأول عن تدمير مصر
وإفسادها , فقد تربحت قاداته , ورموزه , وأعضاؤه مليارات الجنيهات بالطرق اللاأخلاقية والغير قانونية
وحازوا من خلال وظائفهم وعلاقاتهم المباشرة برأس النظام الفاسد علي كنز لا ينضب من الصفقات المشبوهة
والأموال الطائلة , والقصور الفخمة ...فيما كان الشعب يئن من الجوع والفقر والحرمان , ومن تصريحات
سفهاء الحكومة وحراميي النظام المنادية الشعب بترشيد الاستهلاك , وشد الحزام , وموتوا بغيظكم إن كنتم
حاقدين ..!..صدقني كلهم لصوص يا عزيزي , أياديهم ملوثة بالخطيئة , وشرايينهم تسري فيها دماء الثعالب
هل يمكن يوماً لثعلب وضيع أن يتحف الدنيا بعصفور أو حمل وديع ؟؟!!
كيف أوسد الأمر ثانية لمن أفرخ في السابق نظاماً سياسياً فاسداً استعلي علي شعبه , وتعامل مع الوطن
علي أنه ضيعة من ضياعه الخاصة .."
قلت متحلياً بالهدوء ومتحرياً المنطق والحجة :" رويدك يا سيدي , لماذا لا نحاول أن نقرع الحجة بالحجة
ونضع النقاط علي حروفها في نصابها الصحيح ..بعيداً عن السفسطة ..ودون الحاجة إلي طلقات من الشعارات
الجامحة التي تشعل النار في الهشيم , وتحيل الوطن إلي أب ظالم يحنو علي ولد ويقسو علي آخر.!
إن تعميم الحكم في أمر مشاع دون بينة قاطعة هو ظلم فادح , فليس كل الناس أشراراً يستوجبون اللعنة
وليس كلهم أخياراً يستحقون الثناء..إن أي فصيل بشري في الحياة يموج بالخير والشر..هناك شرفاء
وهناك فاسدون..النبتة الطيبة موجودة, والنبتة العطنة الفاسدة موجودة أيضاً ..ليس من العدل يا سيدي
أن نلقي التهم جزافاً علي الناس .."
وقاطعني صديقي فجأة ..واندفع محتداً في لهجة لا تخلو من سخرية :" كلامك ساذج يا سيدي, وعار من الوجاهة والإقناع .. فالحية لا تنتج عسلاً أبدا..
وهم يريدون استلاب الكعكة مرة أخري ...يطمعون في استرداد سطوتهم ونفوذهم , وقوامتهم القذرة
التي حازوها في السابق بعقد زواج غير شرعي وباطل..!
ورغم كل ما حدث فإن التطهير لم ينفذ إلي قلوبهم , ولم تفلح الثورة حتي الآن في قص ريشهم وتقليم
أظافرهم ...إنهم كتيبة من العمالة الخائنة المنظمة تضرب في الخفاء, وتتصيد مواضع الضعف وأوقاته
وتلتجأ إلي أساليب قذرة كالتخوين , والتهويل , وإطلاق البلطجية والسفهاء في الشوارع والميادين
لإشعال الفتنة في نسيج الوطن , والدفع بالمواطنين البسطاء إلي الترحم علي نظام جائر وفاسد
أطاحت به ثورة المصريين ..!
ألم تر أنهم بمنتهي الوقاحة يعودون يطفون علي السطح مرة أخري ..نياتهم الخبيثة منعقدة علي إعادة
ترتيب أوراقهم , وتوحيد صفوفهم لمواجهة القوي السياسية , والحركات الشبابية التي قامت بالثورة
وأطاحت برئيسهم ...إلي الحد الذي دفع بأحدهم إلي التهديد الصريح قائلاً:(إن العزل السياسي لو طبق
علينا في مصر سيؤدي إلي ثورة جديدة , وسيتم قطع الطرق , واحتلال أقسام الشرطة والمراكز)
ثم بلغت به الجرأة مبلغها حين توعد غاضباً:( اللي هلاقيه في دايرتي من الشباب هضربه بالنار)
يقصد شباب الثورة طبعاً الذين خلعوا النظام , وحلوا الحزب , وكسروا تابوه أمن الدولة , وأقاموا
مشنقة للفاسدين ..!
حتي الرجل الأشهر "حسين سالم " الهارب حتي الآن من القضاء المصري بمليارات البلاد المسروقة
يصدح في وقاحة بأنه يدعم رجالات الحزب الوطني المنحل , ويعترف بتمويلهم مبلغ (مليون يورو)
من أجل سواد عيونهم , حتي يعود إليهم زمام الأمر في مصر من جديد...!
باختصار يا صديقي ...ذلك ديدنهم , وتلك أساليبهم ...لصوصية , وعنترية , وبلطجة.
لذا فقانون "الغدر" أو العزل السياسي الذي تطالب به جموع القوي السياسية , وحركات ائتلاف شباب
الثورة والمواطنون المستنيرون من أبناء مصر لو تم تفعيله سيغلق الأبواب دون فلول" الوطني" المنحل
أعداء الثورة , سارقي أموال الشعب...علي الأقل ستكون صناديق الإنتخاب آمنة من العبث والتزوير
لن تكون هناك فوضي...صدقني يا أخي إن الحيات لا تنتج عسلاً , والساحرة الشريرة علي الأبواب
تريد أن تحول الوطن كله إلي مدينة من الشمع ...!" وصمت الرجل فجأة , وشخص بناظريه إلي سقف الغرفة
وغاب في نوبة شرود كالذي تطارده فكرة حائرة....
فتحينت الفرصة , وشرعت أستل الحجة من غمدها , قائلاً في نبرة هادئة حذرة :
" سيدي , دعنا نحتكم إلي المنطق ..أنت رجل ثوري , تطالب بتفعيل قانون العزل السياسي علي اعضاء
"الوطني" المنحل ..حسناً,حسناً ...لكن ألا تري معي أن في ذلك تناقضاً سافراً في مواقف الثورة وأهدافها؟....كيف تريدني أن أؤمن بفكرة "الوطن العادل" الذي يقوم علي مبادئ المساواة , والعدالة
والمواطنة , واحتضان كل أبناء الوطن دون تهمييش أو تمييز , وأنت في ذات الوقت تنادي بعزل
فصيل من الوطن وحرمانه من مباشرة حقوقه السياسية ؟؟!
ألا يعد ذلك تناقضاً كبيراً ؟!
ثم خبرني لماذا أجازت الحكومة الانتقالية في مصر لهؤلاء الحق في تأسيس الأحزاب وحرمتهم من
التمثيل كنواب وأعضاء في البرلمان ...؟؟
ألا يعد ذلك سقطة سياسية جسيمة؟؟!
ثم إن هناك أسماءاً شهيرة كانت تحمل كارنيه الحزب الوطني زمن النظام البائد , واتخذت لها كراسياً
وحقائب وزارية داخل الحكومة الانتقالية التي تدير الآن شئون البلاد , علي رأسها الدكتور "عصام شرف"
رئيس مجلس الوزراء...
لذا فإن القول بتفعيل قانون الغدر علي كل من تثبت عضويته في الحزب المنحل سيضع ثورة يناير علي المحك
وسيجرف أهدافها إلي محيط التناقض..!
أنا أتفق معك أن فساد الحياة السياسية في مصر أيام النظام المخلوع هو سبة فوق جبين الحزب الوطني
لا تغتفر...لكن لماذا لا نمنحهم الحق في التقدم بأسمائهم للمشاركة السياسية علي أن يكون الحكم لرجل الشارع
وصندوق الانتخاب ...وفي ذات الوقت يسير القضاء المصري وجهات التحقيق المعنية علي قدم وساق في فتح
ملفات الفساد , وكل من يثبت إدانته قطعياً يعاقب ..."
وفرغت من حديثي ..ونظرت في عيني صديقي , فلم ألق إرتياحاً....
يبدو أن ثوريته الجامحة تعطل محاولات اقناعه ..!