أزكى واحلي بشائر الربيع الفلسطيني
الشيخ خالد مهنا *
*بعد صبر سنين عجاف جاءت الصفقة لتدشن لمرحلة وحقبة جديدة
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 -التي وافقت الثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام1422- عاش العالم الإسلامي عشر سنين عجاف؛ تضاعف فيها استعلاء الدول المارقة على المسلمين، وزادت جرعات القهر والإذلال، قادت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر إلى حرب أفغانستان، التي لا تزال مستمرة.كذلك، قادت هذه الأحداث، على نحو غير مباشر، إلى حرب العراق، أو حرب الخليج الثالثة.وأسست هذه الأحداث، من جهة ثالثة، لمرحلة العنف الدموي، الذي ضرب عدداً من الدول الإسلامية. وما برح
ماكثاً في البعض منها، ولعل هذه العشرية الخريفية أن تكون خاتمة لقرون الانكسار التي عاشها عالمنا الإسلامي.
وبعد عشر سنوات من خريف التقسيم والمهانة؛ أي في عام 1432 -الذي يوافقه عام 2011 م- اندلعت ثورات عربية مباركة -بإذن الله-، فطردت تونس مجرمها، ثم جعلت مصر فرعونها متهماً في قفص، وألجأت ليبيا جبانها إلى الاختفاء باحثا عن جحر يؤويه ، ولا تزال اليمن تحرق الأرض تحت أقدام ثعلبها بانتظار ان يحسم موقفه قريبا ، وهزت الشام أركان النظام النصيري تمهيداً لإسقاطه، ولا زال المرجل الشعبي يغلي في بلدان كثيرة رجاء الفرج والحياة الكريمة؛ وإن اختلفت الحال من بلد لآخر.
وما من شيء يمنع تكرار هذه الثورات في كثير من بلدان المسلمين، لأننا لو حصرنا جميع الأسباب المحتملة للثورات السابقة لرأينا أنها متوافرة في بقية البلدان فمقل ومستكثر، وما يدرينا لعل الله شاء في علمه الغيبي أن تكون هذه الأحداث فاتحة لعشرية ربيعية تزدهر بعدها بلاد العرب و المسلمين؛ وتكون مقدمة لعصور جديدة تختلف عما سبقها؛ باختلاف الناس أولاً وتغييرهم ما بأنفسهم إلى الخير والإصلاح، والعزيمة الراشدة ...
وعسى أن تؤول هذه الأحداث إلى استقرار تلك البلدان وتصالحها مع دينها وموروثها، ، وارتفاع سقف الحرية. وأن يحاط المال العام بالحماية من السرقة والآفات، وينصاع الكافة للنظام دون حصانة أو تمييز، وترفع المآسي التي أثقلت كاهل الشعوب، وتلبى حاجات الشباب، وأن يكون الحاكم خادماً لشعبه، ويشرف به البلد وأهله، وأن تعود لبلدان المسلمين استقلاليتها وقوتها.
لقد تخلص العرب حتى الآن من ثلاثة زعماء يبلغ مجموع سنوات حكمهم مائة عام تقريبا، وخلال هذه السنوات لم يحقق أحد منهم لبلده الحد الأدنى المرجو من حاكم يشعر أن شعبه بشر يشتركون معه في البنوة لآدم عليه السلام، وأن عليه واجبات تجاههم، وإن كنت أشك بوجود هذا الشعور لدى مَنْ قضت الثورات عليه وعند كثير ممن ينتظر سياط الشباب الذين لم يجدوا عملاً ولا مسكناً ولا زوجةً ولا أذناً صاغية أو حتى كلمة حانية.
ومن موافقات سنة 1432 أنها شهدت طي صفحة الخريف وتفتح أوراق الربيع، وأجمل ورود الربيع هي صفقة تبادل الأسرى التي تمت مؤخرا وبمقتضاها انتهت أزمة إلف أسير و27 أسيرة ...وأزمة أسرهم وأعطت الأمل لآلاف الرهناء والمأسورين بقرب الخلاص..
*ونذكر انه لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز ، وفد إليه قوم من أهل سمرقند ، فرفعوا إليه أن قتيبة - قائد الجيش الإسلامي فيها- دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين غدراً بغير حق .. فكتب عمر إلى عامله هناك أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين من سمرقند أخرجوا .. فنصب لهم الوالي - جميع بن حاضر الباجي - قاضياً ينظر في شكواهم ، فحكم القاضي وهو مسلم ، بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك ، حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة .. فلما رأى ذلك أهل سمرقند ، رأوا ما لا مثيل له في التاريخ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها .. قالوا: هذه أمة لا تحارب ، وإنما حكمها رحمة ونعمة .. فرضوا ببقاء الجيش الإسلامي ، وأقروا أن يقيم المسلمون بين أظهرهم ...وكان هذا الفتح البين من بركات العدل والقسطاط ..
ولا أجانب الحقيقة حين اقو ل ان انتصار هذه الصفقة انما هو من بركات الربيع العربي.....
وما هو الربيع؟؟ الربيع فصل يتبع السنة في الغدو والرواح .. تتوق النفوس له لأنه مرحلة تتويج وتكاثر وريح وريحان .. ثم عبق تنافسه الأزهار .. وهو فصل يعنى البداية في مشوار جديد لحياة الكثير من الكائنات الحية والأشجار .. وهو بداية النهاية لماضي مرحلة قد أنجزت بمسبباتها سلباً أو إيجاباً .. أما الربيع العربي فهو فصل مطية مطيعة صبرت السنوات العجاف .. نالت حقها من الكبت .. وضاقت عليها سطوة المقامع .. وأخذ منها الجوع حتى النخاع .. مطية جمحت وخرجت عن الطاعة في يأس شديد .. ثم قالت في نفسها ( علي وعلى الأعداء ) .. والأعداء هنا هم شلة من أبناء الأمة الذين تمكنوا على المقاليد من واقع الحال .. فهم عشيرة نصبوا أنفسهم خصماً بغير خصام .. وما كان يجب أن يكونوا أعداء .. لأن خزائن الأعداء للأمة مليئة وما أكثر الأعداء .. ثم هم ( أي الأعداء ) على خطوات من الأبواب يقفون ويتحدون الأمة لسنوات .. دون أن تنطلق لناحيتهم رصاصة واحدة قاتلة .. ولكن يوم أن خرجت تلك المطيعة الخاضعة عن مقام السمع والطاعة .. عندما طالت عليها السنوات العجاف .. وهانت عليها المقامات وأشتد عليها الجوع والمرض والفاقة .. ويوم أن رفعوا تلك الأيدي البريئة التي لا تحمل إلا الهموم .. انطلقت الملايين من الرصاصات نحو الصدور الطاهرة .. وفجأة فتحت نفوس الجبناء للقتال بضراوة وقسوة .. وأعدت جيوشها وأعلنت الحرب بأوسع أبوابها .. ولكن ضد من !! .. ضد مطية ضعيفة لا تملك في يدها إلا العزيمة بالخلاص .. هناك سقطت الهيبات والمقامات .. فهم حقيقة أسود ضد أقوامها ونعامات ضد أعدائهم .. وتجربة التخاذل والمراوغة في محاربة العدو الجاثم فوق الصدور ليست لسنوات قليلة تحسب بأصابع الكف .. ولكن لسنوات أصبحت طويلة أسقطت كل مبررات التخاذل والتراجع .. وهل كانوا ينتظرون أن يحرروا تلك الأراضي المحتلة عند قيام الساعة !! .. ثم لماذا هانت تلك النفوس الطاهرة البريئة في تلقي الرصاصات .. ثم لماذا أبت تلك الرصاصات أن تنطلق نحو الأعداء .. ولكن الحقيقة المرة أن رجلاً واحداً منهم لم يتجرأ ويخاطر بحياته ويطلق رصاصة نحو الأعداء من أجل الوطن .. واليوم في مواجهة الربيع العربي نجدهم مستعدين أن يخاطروا من أجل كراسي الحكم حتى لآخر رصاصة .. وحتى إذا نجحوا في تحقيق مآربهم فإنهم لا حوله ولا قوة لهم بعد ذلك .. ويصبحون رموزاً باهتةً فاقدة الشرعية والمقام والشرف والكرامة .. وأية كراسي تلك التي يجلس عليها مصاصو دماء ليحكموا شعوباُ من هياكل عظمية .. البعض منها عند الأضرحة والقبور .. ثم يتوهمون ويريدون أن يكونوا كسابق عهودهم .. هيهات هيهات .. ولقد سقط ماء الوجه لديهم .. وكان الأحرى بهم أن يتعففوا وينالوها معززين مكرمين .. أو يتنازلوا عنها أيضاً مكرمين ومعززين ..
هذا الربيع الذي هل علينا يدفعنا ان نقول لغزة :
لا تبكِ غزة ، ودعي البكاءَ لنا ،
واحفظي دموعك ، لعلها تغسل جراحك
أو لعلها تسقي العطاش من أطفالنا ،
في يوم يشح فيه الماء في مستشفياتنا
لا تبكِ غزةَ يا نوراً بظلمتنا
نحن الظلامُ وأنتِ الشّمعُ واللّهبُ
لا تبكِ غزة يا جُرحاً بأمَّتنا
منكِ الدِّماءُ ومنّا الدمعُ ينسكبُ
لا تبكِ غزة أنت الدَّمُ ينهمرُ
نحنُ الكلامُ ومنّا السُّخطُ والغضبُ
لا تبكِ غزةَ يا قمحاً بجُعبتنا
فيكِ الجياعُ وفينا الخيرُ يُنتَهبُ
لا تبكِ غزةَ من شرخٍ يُفرِّقنا
أنتِ الشهيدةُ نحنُ الموسُ يَختضِبُ
لا تبكِ غزةَ يا ذنباً يُؤرِّقنا
أنتِ الضحيةُ نحن الذنبَ نرتكبُ
لا تبكِ غزةَ من حِلْفٍ يُعاهدنا
منه البراءةُ إنْ حاقت بنا النُّوَبُ
لا تبكِ غزةَ من ذئبٍ يُهاجمنا
فهُمُ القطيعُ وأنت الكبشُ قد هربوا
فهُمُ المشاهدُ للتشجيعِ قد طربوا
أنتِ الفريقُ وأنتِ اللاعبُ النَّجِبُ
أنت الدفاعُ وأنتِ الحارسُ الفَطِنُ
لا تركعين لغير الله إن غلبوا
لا تبكِ غزةَ يا حُلْماً يُراوِدُنا
نحنُ الّليالي وأنتِ الصُّبحُ والشهُبُ
لا تبكِ غزةَ يا عِشقاً يُلازمنا
أنتِ الحبيبُ ونحن الهَجرُ يَنتحبُ
لا تبكِ غزةَ يا ذنباً يُؤرِّقنا
نحن الخطيئةُ نحنُ الذنبُ والسببُ
لا تبكِ غزةَ يا نجماً بليلتنا
أنتِ العلوُّ وأنتِ التِّبرُ والذهبُ
لا تبكِ غزةَ يا رمزاً لعزتنا
أنت العصِيُّ فلا شكٌّ ولا عجبُ
واتمام هذه الصفقة على النحو الذي لم نتوقع يدفعنا ان نقول لكل شبل في غزة وكل شيخ وكل فتى وكل امراة:
يا غَزَةُ احتسبي جِراحَكِ إنني *** لأرى اختلاطَ الفجرِ بالأَسحارِ
لا تجزعي من منظر السُّحُب التي *** تُخْفي كواكِبَنا عن الأَنْظارِ
سترين تلكَ السُّحْبَ تَنُفُضُ ثوبَها *** يوماً بما نرجو من الأمطارِ
يا غزَّة الجُرْح المعطَّر بالتُّقَى *** لا تيأسي من صَحْوةِ المليارِ
لا تيأسي من أمةٍ ، في روحها *** ما زال يجري مَنْهَجُ المُخْتَارِ
ما كنا حتى في أجمل مناماتنا نتوقع أن تظهر صفقة كالتي تمت إلى النور،ولكنها حقيقة ليست حلماُ وإن دلّ الأمر على شيء فإنما يدل على أن الزهرة التي اينعت في ربيعنا الفلسطيني لن تذبل أبداً،وسيعقبها يقيناً زهرات لوتس أجمل...
وحتماً سيخرج باقي الأسرى...وحتماً سيفك الحصار عن غزة قريباً،وأنا لا أتكلم رجماً بالغيب...
وحتماً ستتم عن قريب صفقة إتمام الوحدة الوطنية...
وحتما ستفتح عن غزة كافة المعابر وسيعود مطارها الدولي ا ليعمل وميناؤها ليصدر للدنيا أحلى وأزكى الأسماك وأعطر وأعذب برتقال...
وكما أنّ الشمس لا تدرك ميزتها وأهميتها بالنسبة للوجود وكما أنّ الأزهار والرياحين لا تعلم إن رائحتها أطيب الروائح،فقد غاب عن غزة أدراكها لميزاتها وفلقها الخاصة وحتماً أدركت وستدرك غزة أنّ لها مذاقاّ.
وطعماً خاصاً قلّ نظيرة...إنها ست الدنيا فاتونا بمثلها إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
*رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..
رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.