فنُ المُمكِنِ
فنُ المُمكِنِ
د. حامد بن أحمد الرفاعي
كتبتُ في مَطلِعِ الثمانيناتِ منَ القَرنِ المُنصرمِ مَقالةً عنِ السياسَةِ وردَ فيها عِبارةُ (السِيَاسَةُ هي فنُ المُمْكِنِ)..وانقسمَ الأصدقاءُ بشأنِها إلى فريقينِ..أحدُهُما استقبلَها بارتياحِ واستحسان وأثنى عليها ثناءً حسناً..والآخرُ تلقاها بكثيرٍ منَ الاستهجانِ والاستنكار وأخذ يردد باستهزاء:(فنُ المُمكِنِ..وما أدراك ما فن الممكن ..!؟) ولكنْ معَ الأيّامِ ازدادَ المُرتاحون لها ارتياحاً وقبولاً..وتراجعَ المُستهجِنون عنْ استهجَانِهم وتَحولُوا إلى إعجابٍ مُفرطٍ بها..ورَاحوا يُرددونَها ويَطربُون لِذكرِها وكأنًّها منْ صُنعِ بناتِ أفكارِهِم..!؟بكل تأكيد السياسةُ في الإسْلامِ جُزءٌ منْ أداءِ المُسلمِ في تَحقيقِ تَقوى اللهِ وطاعتهِ ومرضاتهِ في مسيرةِ الحياةِ..وأداءُ التقوى في الإسلامِ على مرتَبتين:أولاهُما وأعلاهُما في قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"وهي سَقفُ طاقةِ المؤمن وإمكانه..وثانيهُما في قوله جلَّ شأنه:"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"وهي الحد الأدنى من الطاقةِ والإمكان..وما بينَ المرتَبتينِ مراتبُ عديدة منْ فن المُمكنِ..تزدادُ وتنقصُ حسبَ القُدراتِ والمَهاراتِ وأحوالِ النَّاسِ زماناً ومكاناً..واللهُ سُبحانَهُ يُقرِّرُ القاعدةَ الربانيِّةَ العظيمة:"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"وتأسيساً على هذه القاعدة وما سبقها من نصوص قرآنية كريمة محكمة جاء اشتقاق عِبارةُ (فنُ المُمكنِ) في المقال المشار إليه أعلاه..والمُمكنُ بِكُلِّ أنواعهِ ومجالاتِهِ وفُنونِهِ من سبل الحكمة والحصافة في التعامل مع الأحداث والتحديات..حقاً إنَّهُ لَمِنَ المَهارةِ والحصَافةِ والحكمَةِ والشجاعَةِ ومن حسن الدراية والأداء..أنْ يقبل المرء تَحقيقَ بعضِ أهدافه على أساسٍ منْ قاعدةِ فنِّ المُمكنِ..بقصدِ التدرّجِ في تَحقيقِ كامِلَ غاياته وطموحاته..أجل فالمهارةُ كلُّ المهارةِ والحصافةُ والحكمةُ والشجاعةُ مع تَفّعيلِ مهاراتِ ووسائل فنِّ المُمكنِ..لا معَ التوحّلِ والغَرقِ في لُجَجِ الطموحَاتِ والتطلعات العاطفيِّةِ والاندفاعات الهوجاء الخرقاء..حيث يكونُ بعدها النَدمُ الشَدِيدُ لِضِياعِ المُمكنِ وغير الممكن مَعاً..والواقع وخزائن التاريخ والتجارب والكوارث المريرة التي واجهت ولا تزال تواجه الناس..تنبئ بذلك وتؤكده وتؤيده وتنطق به..ولكن للأسف تجد الكثير يتشبث-إلا من رحم ربي- بالمثل لقائل:"بهاي طينة وبهاي عجينة":ماضياً في عناده وهواه مطمئناً نفسه قائلاً لها:لا..لا..لا..أنا غير ..!؟حتى إذا ما وقعت الكارثة سارع ليردد قول الله تعالى:"قُلْ لَنْ يُصِيبنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنا"من غير أن يحاول ولو لمرة واحدة أن يتذكر قول الله تعالى فيقول لنفسه ولمن معه:"قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ"والله والمستعان