المنظومة الفكرية التي تقف وراء الثورة
نوال السباعي
"1"
الثورة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم ، تعتبر واحدة من أكثر الظواهر البشرية السياسية العالمية إدهاشاً، ذلك أن الأهداف الآنية "البسيطة" لهذه الثورة -والتي بدأت لتوها ، وستستغرق زمنها وحراكها الاجتماعي الثقافي ، وضحاياها البشرية والسياسية والفكرية- هو إسقاط الانظمة ، أما أهداف الثورة الكبرى والمعقدة ، فهي إحداث تغيير جذري في نسق الحياة الاجتماعية والفكرية ، أي الإنسانية والثقافية لسكان المنطقة.
غُيبت إرادة "الأمة" ، بعد خروجها من الحرب العالمية الاولى مهزومة، لكنها لم تلبث أن حاولت الوقوف على قدميها ، مما سرّع عملية زرع أو تثبيت الأنظمة "العميلة" التي اعتمدت في قيامها واستمرارها على منظومات فكرية لاتمت لإرادة "الأمة" بصلة ،كانت فيها المآرب العصبية والقبلية والطائفية ، قواعد اساسية لنشوء "أحزاب" حكمت في بعض الأقطار ، لتنفيذ أجندات الأقليةعلى حساب الأغلبية ، بينما تمّ اختطاف "الإسلام" في أقطار أخرى ليصبح نسخة خاصة بحكامها يستبدون من خلاله ليس بالثروات والعباد فحسب ، بل بالإسلام نفسه ، بجعله دينا قوميا جغرافيا خاصا برؤيتهم المتخلفة عن الإنسان والمجتمع والسياسة والدولة والعالم !.
لم يكن من المستغرب أن ينفجر الشارع في المنطقة العربية ، وهو لم يتوقف وخلال خمسين عاما عن الزلزلة والهمهمة والاعتراض وجميع مظاهر المقاومة الفكرية والسياسية والشعبية المسلحة منها وغير المسلحة ،مراوحة بين "القومي" و"الديني"، في محاولات مستميتة للخلاص من هذه الأوضاع المزرية التي يعيشها ، لكن المثير للدهشة ، هو هذا الانفجار الحضاري الهائل ، الذي تمتع بمقومات استثنائية تاريخية.
جاءت الثورة جماهيرية عامة عارمة ، و رفعت شعارات فريدة من نوعها في تاريخ المنطقة الفكري المعاصر، ثورة سلمية ، لاطائفية ، ولاقومية ، ولادينية!.. تطالب بدولة حديثة ديمقراطية ، ومجتمع يتمتع بالتعددية ، وإنسان حر كريم!، كل هذه الشعارات لاتعني إسقاط الأنظمة والمنظومات الفكرية التي قامت عليها فحسب ، ولكنها تعني إحداث قفزة نوعية هائلة في فلسفة التعامل أصلا مع المنطقة ، بمقوماتها الدينية واللغوية والجغرافية التي تجمع ، وبفسيفسائها الإنسانية والثقافية والفكرية والتي لايجب ان تستثني!.
كنا نعتقد أن "العرب" لايقرؤون ، لكن شباب الثورات أثبتوا، أنهم كانوا يقرأون ويعّون تماما ماذا كنا نكتب خلال ثلاثين عاما ، حيث وفرت الصحافة المكتوبة "الحرّة"، ومن ثم الانترنيت ، المساحة اللازمة والكافية لإجراء عمليات البناء والهدم والمراجعة والنقد الذاتي في هيكل منظومتنا الفكرية ،مُشَكِّلة منتديات واسعة للمثقفين وصناع الرأي ، تدار فيها حوارات فكرية صحفية ، وفّرت مناخاتها عواصم عربية ، تبادلت فيم بينها على التوالي مهمة توفير هذا المناخ ، بدءاً بالقاهرة والكويت و بيروت ، ثم الدوحة وأبو ظبي والدار البيضاء .
دائما كان يجد المثقفون "العرب" ،الواحة التي يلجأون إليها من قيظ حياتهم القاحلة ، في بلادٍ حاول حكامها اجتثاث الفكرة والكلمة والموقف ، فإما أن تُوَظَف لخدمة الجلادين ، وإما أن تكون في عداد المجلودين .
استطاع هؤلاء المثقفون تطوير آليات فكرية جماعية جديدة ، تم تداولها بينهم ، فلايمكنك أن تكتشف بسهولة من الذي ابتكر هذه الفكرة ، أو ذلك المصطلح - إلا ماتعلق بجودت سعيد ،وخالص جلبي في مسألة الكفاح السلمي- ، بينما كانت منظومة فكرية جديدة متألقة ، تمضي بخطى ثابتة نحو وعي الشباب المثقف ، الذي كان وقوداً لهذه الثورة الإنسانية الهائلة التي تشهدها منطقتنا اليوم.
وبصرف النظر عما أنتجه "مثقفوا الأنظمة"، وعن مواقفهم من هذه الثورة ،ليس صحيحا أن دور عامة المثقفين في هذه الثورة كان باهتاً ، أو متخلفا عنها ، بل على العكس تماما ، لقد قاد المثقفون الصياغة الفكرية لهذه الثورة ، ورعوا منظومتها ، وعملوا بدأب وتصميم على مسايرتها ورفدها فكريا بمزيد من التأكيد والترميم والتصويب .
لقد تمخضت الحركة الثقافية الفكرية في المنطقة عن إسقاط حقيقي لكل المقولات والمسلمات والأدوات الفكرية التي كان يتداولها جيل الهزيمة ، فانبثقت عنها قاعدة فكرية حديثة صلبة ، تواجه وبعنفوانٍ ثقافيٍ طاغٍ، الأنظمة القائمة ، و الحركات السياسية التي عرفتها المنطقة ، ومنظوماتها الثقافية.
فقط ..ستنجو من هذا التسونامي الفكري الهادر الكاسح ، تلك الأنظمة والحركات السياسية ، التي تستطيع ان تواكب هذه التطورات الثقافية الفكرية الهائلة ، وتتمكن من إعادة صياغة رؤيتها الخاصة عن نفسها وعن المنطقة وعن الآخرين .
-يتبع-