صور ناطقة للتحوت والروابض 30+31+32

صور ناطقة للتحوت والروابض

30+31+32

أحمد الجدع

[30]

-- -----------------------------

دعينا ذات يوم على مأدبة للغداء في دولة من دول المسلمين ، وكانت الدعوة في واحد من مطاعم أفخم الفنادق فيها .

كان الموسم السياحي في زمن الدعوة راكداً ، جميع مطاعم الفندق خالية حتى مطعم الملوك في الطابق الأعلى للفندق .

حظينا باحتفاء رئيس المشرفين على المطاعم ، وهو أيضاً المشرف الخاص لمطعم الملوك .

أحب هذا المشرف أن يكرمنا ، فنقلنا من المطعم الذي حجزنا فيه دعوتنا إلى مطعم الملوك ، وقال ضاحكاً : لعلكم أن تكونوا مستقبلاً من الملوك الذين تدعون إلى هذا المطعم أو مما هو مثله في بلاد الدنيا .

جلسنا قبل تجهيز المائدة نتجاذب أطراف الحديث ، كل من يحدثك يميل إلى الحديث فيما يعرف ، وقد حدثنا هذا الرجل عن أيام عمله في سويسرا وقال بأن الأوروبيين أكثر الناس إقبالاً على الأكل ، وقد يستمر الأوروبي في الأكل ساعات متوالية ، ويلجأ إلى حبوب صنعت خصيصاً لإخراج الطعام من المعدة ، وذلك حتى تفرغ من محتوياتها وتستعد لدفعات جديدة من الطعام .

وعندما قال أحدنا إنه كان يظن أن العرب أكثر الناس أكلاً رد عليه هذا المشرف قائلاً : هذا غير صحيح ألبتة ، الأوروبيون ومعهم الأمريكان أشره خلق الله في الأكل ... وأخذ يشرح لنا ذلك ويضرب الأمثال !

ثم إن المائدة قد جهزت ، ودعينا لتناول الطعام ، وعندما جلسنا إلى المائدة لاحظنا أن أطباق الطعام مذهبة وأن الملاعق والسكاكين والشوك تلمع لمعاناً ظاهراً ، وعندما سألناه عن ذلك قال إنها كلها من ذهب .

امتنعنا عن الأكل ، فقال : ما شأنكم ؟ قلنا لا نأكل فيما صنع من الذهب ، لقد نهانا ديننا عن ذلك .

ففغر فاه دهشة وقال : إن ملوك المسلمين وأمراءهم وأغنياءهم يرفضون أن يأكلوا إلا في ملاعق الذهب ، وفي أطباق موشحة بخيوط من ذهب ، ثم قال : وهل ملوكنا وأمراؤنا وأثرياؤنا لا يعلمون أن ديننا يحرم ذلك ؟

ثم سأل : هل صحيح أن هذا محرم علينا كمسلمين ؟ صدقوني أني لا أعرف ذلك ، لأنني تعلمت فن الطبخ في أوروبا ، وعملت هناك ، ثم جئت هنا ، ولا علم لي بأحكام أدوات الطعام في الإسلام .

ناقشنا ، وانتهينا إلى تبديل الأطباق بأخرى ليست من ذهب ، أتى لنا بها من مطعم آخر لا يأكل فيه سادتنا .

حسبنا الله .

==========

[31]

-------------------------------

ما أجمل أيام الخليج في الستينيات من القرن الماضي ، فقد كانت تصرفات الناس فطرية ، كما أرادها الدين الحنيف ، ترحيب المسلم بأخيه المسلم ، فتح الصدور لأبعد مدى ، كانت الألفة هي السائدة ، وكان الذي يأتي يكفي الجميع .

ثم فاضت النعم ، وكثر المال ، واشتد التنافس على جمعه واقتنائه وخزنه ، ولم يعد وسيلة من وسائل العيش ، ولا من وسائل التناصف ، ولا من وسائل المودة ، ولا من وسائل التكافل .

بالمال القليل كان المجتمع متحاباً ، وبالمال الكثير فقد هذا التحاب .

لكم أن تتصوروا أن صاحب دخل محدود لا يرقى راتبه إلى ألف ريال يطالبه صاحب المسكن بأجرة تفوق خمسة آلاف ريال ، صاحب المسكن غير محتاج لما يطلب ، وساكن المسكن غير قادر على الأداء ، ومن أين له الأداء .

النهم للمال أصبح قرماً للحوم العباد ... وكانت الكلمة السائدة ادفع أو ارحل .

إذن "ارحل" التي تقال اليوم للرؤساء كانت قبل نصف قرن تقال للبسطاء ، سبحان المغيّر والمبدّل !!

نعم كنا ننام على صورة من صور المستحيل ، ونستفيق على صور ... مماثلة لما نمنا عليه ، وأصبح الحديث في كل مكان عن قصص جديرة بأن يؤلف في كل قصة منها كتاب .

كل فرد أصبح يتحسس رأسه كما يقولون .

أبو علي موظف بسيط ، لا يكاد راتبه يكفي قوته وقوت عياله ، يسكن في مسكن مستقل ، ليس فوقه أحد وليس تحته أحد ، وأجرة المسكن مناسبة ، ينام ملء جفونه ولا يفكر في مثل الذي يفكر به الناس من رفع الأجور ، ذلك لأن صاحب المسكن يملك الملايين ، فما حاجته إلى الملاليم !!

طرق طارق بابه ، فكر في الناس جميعاً ما عدا صاحب المسكن ، فتح الباب فإذا به وجهاً لوجه أمام السيد الثري ...

أهلاً ... أهلاً أبا فلان .

يقول أبو فلان : لا أهلاً ولا سهلاً ، أجرة المسكن خمسة آلاف ريال اعتباراً من اليوم ، ثم طوى عباءته محتداً ، ومضى لسبيله .

وقف أبو علي تملؤه الدهشة ، كلم نفسه قائلاً : لا بد أن الرجل جاء مازحاً ... لا إن حدته تنبي عن حاله ... أصدق أو لا أصدق ؟ إن هذا في غدنا سوف يبين !

في اليوم التالي عاود المالك زيارته : هل حضرت المبلغ ؟

قال أبو علي : اتق الله بنا ، فأنت تعرف أننا لا نستطيع أن ندفع مثل هذا المبلغ .

قال : معك أسبوع واحد تتصرف به .

مضى الأسبوع ولم يدفع .

في اليوم الذي تلا الأسبوع قام أبو علي ليخرج إلى عمله ، حاول أن يفتح الباب ففاجأه الهول الذي لم يتوقعه .

ما هو الهول ؟

لقد بنى صاحب البيت طوباً وإسمنتاً فأغلق البيت على ساكنيه .

ماذا ، أغلق البيت على ساكنيه بالإسمنت والطوب ؟

نعم ... هكذا فعل المال ، انقلب على الحب فأعدمه ، وعلى الألفة فذبحها ، وعلى التكافل فنحره ، يا لله ماذا يفعل الغنى ... إنه يأتي على القلوب المتحابة فيسدها بالحجر !

ومن لطف الله أن أبا علي كان يملك هاتفاً ، اتصل بالشرطة ، شرح لهم الأمر ، فلم يصدقوه .

ألح في الاستغاثة ، طلب منهم أن يشنقوه إن كان كاذباً .

جاؤوا ، وكلموه من وراء جدار ، وعندما سمعوا اسم صاحب السكن انصرفوا معتذرين .

اتصل أبو علي بكل اسم خطر بباله ... قال له أحدهم : سوف نتدبر الأمر ... ذهبوا إلى حاكم البلد ، أجابهم بأن القانون مع صاحب السكن ... أفهموه أن مثل هذا التصرف إذا وصل للصحف وأذاعوه أضر بسمعة البلد ، وأصبحت محط التندر في كل مكان .

هزّ رأسه وأمر بأن يفتح الباب .

قال أحدهم وهو يستمع إلى أبي عليّ يشرح ما حدث : إنك لعلى حظ عظيم ، صاحبي كاد صاحب مسكنه أن يشعل النار في البيت ومن فيه .

قال أبو علي : الحمد لله ...

حسبنا الله .

==========

[32]

-------------------------------

عصرنا يزخر بالأعاجيب !

أفهم أن يفدي أحدنا دينه ومبادئه بماله وبروحه ، أفهم هذا تماماً ، وأومن به .

وأفهم أيضاً أن يفدي الإنسان وطنه وعرضه ، وقد قال رسول الله صلة الله عليه وسلم : " من مات دون عرضه فهو شهيد " .

وأفهم أن يفدي الإنسان الفضائل كلها ، فالفضيلة جديرة بالفداء .

ولكن بدعة العصر أن يفدي الإنسان زعيمه وهو يظلمه ، وأن يفدي قائده وهو يستسلم لعدوه ، وأن يفدي أميره وهو يمدّ رقاب الناس للذبح ، وأن يفدي صاحب السيادة وهو ينهب أمواله ويبددها يميناً وشمالاً ...

أقول : إن هذه الحناجر التي تبح بالهتاف الشهير : بالروح بالدم نفديك يا زعيم ويا ... ويا ...

أصوات منافقة لا تستطيع أن تفدي أحداً لأنها إذا جدّ الجدّ تفرّ ولا تدري لفرارها قراراً .

بالروح بالدم ، سمعناها منذ أفلت دولة الخلافة ، دولة الوحدة ، دولة الشرف ، دولة العزة والكرامة ، لم يكن أحد آنذاك يفدي أحداً ، كان الكل فداء للدين والوطن ، بعدها ، وبعد أن بدأت دول التحوت ومجتمعات الروابض بدأنا نسمع هذا النداء الذي تبح فيه الأصوات ، ولكن هذا النداء : بالروح بالدم تطور تطوراً عجيباً وذلك مع تطور مجتمعاتنا إلى ما هو أدنى ، فأصبحنا بعد أن كنا نفدي الأحياء نفدي أيضاً الأموات .

رأيت حشوداً تنفث أصواتاً وهي تدفن زعيماً قادها من هزيمة إلى أخرى : بالروح بالدم نفديك يا فلان .

كل هذه الحشود تتجه إلى القبر المفتوح لالتهام الزعيم ، ولا تلتفت إلى الخلف حيث القدس والأقصى تسن لهما المدى للذبح .

كلهم يفدي جثة .

أنظر إلى جموع الخراف وهي تزدحم حول القبر ، وأسمع هتافها المجنون : بالروح بالدم ، وأقول : إلى متى ؟ وإلى متى ؟ وإلى متى ؟

حسبنا الله .