وللكلمات... إناء
وللكلمات... إناء
هنادي الشيخ نجيب
يحكى أنّ ملكاً رأى في منامه كأنّ أسنانه قد سقطت كلها، ففزع من الحلم وأمر باستدعاء معبّري الرؤى. وقف الأول أمامه قائلاً: "أيها الملك، تفسير رؤياك أن جميع أقاربك يموتون قبلك"، فتضايق منه وأوعز بقتله...
دخل الثاني وأدلى بما فهمه من الرؤية، فكان مصيره كمصير الأول...
ثم أُحضر المفسّر الثالث، فبادر الملك بابتسامة عريضة مبشّراً إيّاه أنّه سيكون أطول أقربائه عمراً إن شاء الله ... فرح الملك بالأداء والتأويل، وأحسن إلى المفسّر وأمر له بعطاء جزيل...
إنه موقف- أيها الشباب- يتخطى حدود الزمان والمكان، لأنّ بيت القصيد فيه هو " فنّ الكلام".
فليس المهم أن نتكلّم بما نعلم، حتى وإن كنّا على يقين من صوابه وصحته، لأن الأهم أن نعرف كيف نقوله، واضعين نصب أعيننا تحقيق ثلاثة أمور من خلال كلماتنا: كسب القلوب، وتوجيه المشاعر، وتغيير أو تعديل الإدراك...
ولئن أبدع الله تعالى في خلق الإنسان بجعله قادراً على الإفصاح والبيان، وتحريك اللسان بكلام يعبّر عن مكنون العقول ولواعج الصدور؛ فإنّ وقع تلك الأصوات وعظيم تأثيرها وإمعان سحرها في إحياء النفوس- أو تحطيمها- لهي معجزة ثانية تستحق الوقوف عندها وتدبّر آفاقها...
واعلموا شباب الغد أنّ لكلّ كلمة " قالب" تُسكب فيه قبل أن تُقدم على مائدة المستمعين، وهنا يحقّ لنا أن نسأل عن مدى انعكاس ذلك القالب على مضمون الكلام وتفاعل المتلقي...
إنّه الأسلوب، نعم...ذلك الإناء الذي يضفي على الكلام هيئة تزيد القابلية، وتشجع على هضم محتواه واستيعاب مبتغاه وإنفاذ مقتضاه...
فلو أنّ أحداً أهدى إلى جليسه أغلى نوع من العطور مسكوباً في كيس من النايلون، لكان تلقّاه باستهتار وازدراء، مستخفّاً بالمضمون- وإن كان قيّماً وثميناً- ، فقد افترى الشكل على العطر وقلّل من شأنه وخفّف من تأثيره!
شبابنا الكرام، إننا مطالبون، ونحن نتعامل مع أنفسنا وأهلينا وأصدقائنا ومسؤولينا وكل من حولنا، أن نختار الكلمة الطيبة المفيدة وننتقي لها الإناء المناسب الذي يحفظ لها وظيفتها، وأن نتقن فنّ إيصال شريان الحياة إلى الكلمات، ونتعلّم كيف نغمسها في وعاء الودّ والإحسان، وإن اضطررنا إلى بعض التنازلات- في حدود المسموح شرعاً وأخلاقاً-، إذ كسب القلوب أولى عندنا من كسب المواقف؛ والطريقة هي الفيصل...