مصر قلب العروبة وحصن الإسلام
حسام مقلد *
جاءت زيارة الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر الثورة لعدد من دول الخليج العربي وما لقيه هناك من حفاوة كبيرة وترحيب بالغ تجسيداً لعمق العلاقات والروابط التاريخية القديمة التي تربط بين مصر وأشقائها العرب في كل المجالات، وغني عن القول إنها ليست مجرد علاقات دبلوماسية تفرضها المصالح السياسية والاقتصادية المتبادلة عادة بين الدول، وإنما هي علاقات راسخة تؤكدها حقائق التاريخ والجغرافيا، وتعمقها وشائج القربى وصلة الرحم واللغة والدين والهم العربي الواحد وحلمهم المشترك، وهذا ليس كلاما إنشائيا مستهلكا، ولا شعارات جوفاء ترفع في مثل هذه المناسبات، بل هي حقيقة وواقع نعيشه يوميا في أشياء كثيرة من حياتنا، فمصر حاضرة بقوة في عقل ووجدان وضمير كل عربي، ومن الطريف في ذلك أننا كثيرا ما نسمع أشقاءنا العرب في مختلف وسائل إعلامهم بل وفي مجالسهم الخاصة يستشهدون بالأمثال الشعبية المصرية فتسمعهم يقولون المثل المصري مسبوقا بقولهم: "على ما قال إخواننا المصريين" ويخبرني صديق مصري يعمل مدرساً، وقد سبق له العمل في عدة دول عربية أن التلميذ النجيب في هذه الدول يلقبه أقرانه وأهله وذووه بـ "المصري" تعبيرا عن إعجابهم بنبوغه وذكائه وفطنته فيشبهونه في ذلك بالإنسان المصري الذي عرف بهذ الصفات على مر التاريخ.
وفي الواقع لا نبالغ إن قلنا: إن مصر هي قلب العروبة وحصن الإسلام، فهذه حقيقة يقر بها الكثيرون في شتى الدول العربية والإسلامية، ويرددونها بكل مشاعر الحب والفخر والاعتزاز، وقد عبر كبار المثقفين العرب في معظم الدول العربية عن أصدق مشاعر الفرح والبهجة بنجاح الثورة المصرية، وأعربوا عن عميق إكبارهم واحترامهم للشخصية المصرية واعتزازهم بها وبما تحققه من إنجازات حضارية وثقافية ترفع من قدر العرب جميعا وتعلي شأنهم في المحافل الدولية.
وقد أثبتت الثورة المصرية المباركة بالفعل أن مصر هي قلب العروبة النابض وحصن الأمة الإسلامية الحصين، وأن شعبها الحر الأبي المتدين بطبعه شعب عظيم وعريق، تمتد جذوره في أعمق أعماق الزمن والتاريخ والحضارة، وهذا الشعب العزيز لن يتخاذل أبدا عن تحمُّلِ مسؤوليته الكبرى والقيام بدوره التاريخي في الحفاظ على الأمتين العربية والإسلامية، ولسوف تفعل مصرُ وشعبُها بعون الله تعالى وتوفيقه كما فعلت في معركة (حطين) بقيادة البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي عندما حرر مجاهدو مصر القدس والمسجد الأقصى من سيطرة الصليبيين، ودحروهم وطردوهم شر طردة من فلسطين الغالية المباركة، وهيأ جهادُهم لاندحار الصليبيين من بلاد الشام كلها، وكما فعلت مصر في معركة (عين جالوت) بقيادة البطل المسلم قطز حيث كسرت شوكة المغول الذين اجتاحوا كل دول المشرق الإسلامي ودمروا بغداد حاضرة الخلافة العباسية، ولم يثبُتْ أمامهم أيُّ جيش، ولم تقف في وجوههم أية قوة، وتهاوت تحت سنابك خيولهم الممالكُ الإسلامية واحدةً تلو الأخرى، إلى أن وصلوا إلى حدود مصر فصدَّهم المجاهدُون المصريون وانتصروا عليهم بفضل الله تعالى، وهزموهم شر هزيمة، وردوهم على أعقابهم خاسرين.
أما بخصوص ما أثير مؤخرا من شائعات في بعض وسائل الإعلام تزعم أن هناك ضغوطا تمارسها عدة دول عربية وغربية من بينها السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة... وغيرها للحيلولة دون محاكمة الرئيس السابق مبارك محاكمة جادة وإيداعه السجن كغيره من المتهمين، بل وصل الأمر لحد تسريب كلام منسوب لجهات شبه رسمية على علاقة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في مصر حاليا يشير إلى وجود مثل هذه الضغوط التي تمارس على مصر لمنع محاكمة مبارك، وأظن أن هذا الكلام كله مجرد تخرصات ومحض إشاعات لا أساس لها، وأجزم بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لن يلتفت لمثل هذه الشائعات فمن القيم العليا والمُثل السامية والمبادئ الراقية التي تؤكد روعة وعظمة الثورة المصرية قيمة العدالة وتطبيقها على الجميع دون فرق بين حاكم أو محكوم أو شريف ووضيع؛ فالعدالة هي العدالة، ويجب أن تطبق على الجميع بلا أدنى تمييز ودون رغبة في التشفي، والرئيس المصري السابق متهم بارتكاب لائحة طويلة من الجرائم والاتهامات الموجه إليه تهمةُ ارتكابها بحق مصر والمصريين، ومنطقي جدا أن يقدم مبارك على خلفية هذه الاتهامات كأي مواطن مصري آخر إلى القضاء الطبيعي للنظر في هذه الادعاءات، والدستور والقانون يكفل له كغيره من الناس الدفاع عن نفسه وتفنيد كل هذه الدعاوى وإبطالها ـ إن استطاع ـ بالطرق القانونية السليمة.
وأعتقد أنه لا يوجد مبرر مطلقا للخوف من محاكمة مبارك محاكمة عادلة، وليس في ذلك أبدا أي مساس بكرامته أو خدشا لماء وجهه، ولا يوجد أحد من البشر في النهاية معصوما من الخطأ أو منزها عن المساءلة والحساب والمحاكمة إن ارتكب ما يوجب ذلك، وجميل أن يخضع حكامنا ـ كغيرهم من حكام العالم المتحضر ـ للمساءلة القانونية إن أخطؤوا، أم أن حكامنا آلهة لا يخطئون آناء الليل وأطراف النهار؟! ثم أليس من مصلحة مبارك شخصيا أن يقدم لمحاكمة عادلة كي يُبرَّأ إن كان بريئا بالفعل؟! وإن كان مذنبا وثبتت إدانته فما المصلحة في إفلات المجرم بذنبه وجرمه من العقاب؟! وبدهي أن مصالح الدول الأخرى مع الشعب المصري والدولة المصرية وليست مع مبارك وفلول نظامه مهما كان قدم لهم من خدمات... !!
ولأتكلم بصراحة أكثر فما قيمة مبارك دون مصر؟! إن مبارك في النهاية ما هو إلا إنسان سيموت عاجلا أو آجلا ويذهب إلى ربه كغيره من البشر ويفضي إلى ما قدمت يداه، إن مبارك زائل لا محالة، لكن مصر الدولة والشعب والتاريخ والمكانة باقية بقاء الحياة إلى أن يشاء الله تعالى لها ألا تبقى وتقوم الساعة، فأي عاقل هذا الذي يربط نفسه بفرد زائل ويسعى بكل جهده إلى حمايته وإفلاته من يد العدالة، ويتصادم مع رغبات خمسة وثمانين مليون إنسان في الانتصار لأنفسهم ممن ظلمهم من خلال تقديمه لمحاكمة عادلة نزيهة أمام القضاء الطبيعي الحر المستقل؟!!
وفي الحقيقة فإن هذه المحاولات المؤسفة لمنع محاكمة مبارك، وإنقاذه من تحمل تبعات جرائمه ما هي إلا جريمة كبرى ترتكب بحق مصر وشعبها العريق وأبنائها الكرام البررة، بل هي في ظني جريمة ضد مبدأ العدالة الإنسانية التي يجب أن تأخذ مجراها لإرساء نموذج قيمي إنساني في مصر والعالم العربي يؤكد أن المجرم لن يفلت بجرائمه دون عقاب، ويكون ذلك سنة حسنة وسابقة حميدة لردع كل الطغاة والظالمين في المستقبل.
وبقيت كلمة أود أن أختم بها كلامي: إن معركة مصر والعرب والمسلمين ليست مع الماضي مطلقا، بل هي مع المستقبل المليء بالمصاعب والتحديات الجدية التي تواجهنا جميعا على كل الأصعدة وفي مختلف المجالات، خاصة المجالات الحيوية: كالغذاء والماء والدواء، فضلا عن المجالات التقنية التي نعاني فيها من التخلف الشديد، ولا أمل لأية دولة عربية أن تنجح منفردة في مواجهة كل هذه التحديات مهما كانت إمكاناتها المادية والبشرية، والأمل الحقيقي لنا هو في التعاون والتكاتف والتكافل والتكامل، وهذا كله يستدعي وضع خطط عملية حقيقية وعاجلة لإنشاء شراكات ثنائية وموسعة بين كافة الدول العربية لصنع تنمية مستدامة شاملة ومتكاملة في كل المجالات، فليتنا نفعل ذلك قبل فوات الأوان، ليتنا ننفذ أمر الله تبارك وتعالى القائل: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103] لبتنا ننطلق ـ أفرادا وجماعات ـ في كل تحركاتنا من قوله عز وجل: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة:2].
* كاتب إسلامي مصري