الثورة السورية: خواطر ومشاعر

مجاهد مأمون ديرانية

الثورة السورية:

خواطر ومشاعر

مجاهد مأمون ديرانية

(1)

لن تُهزَم أمة فيها هؤلاء (1 من 2)

شاهدت وشاهد الملايين معي المقطعَ المصوَّر الذي انتشر في الشبكة وفي الفضائيات العربية والأجنبية، ذلك الذي يصوّر شبّانَ البيضة وقد بُطحوا على الأرض على وجوههم فيما راح رجال النظام المسلحين يطؤونهم بالبساطير ويضربون رؤوسهم وأجسامهم بالعصيّ والأيدي والأرجل. لم أشاهده مرة ولا مرتين، بل عشراً وعشرين، ليس فقط لأنه ما زال يُعرَض على الشاشات ويُعرَض، بل لأني لم أكتفِ من المشاهَدة الواحدة ولا العشر، ولا شبعت ولا ارتويت.

لقد أدمنت مشاهدةَ هذا المقطع لأستمد منه الشجاعة والثبات، فقد أذهلتني شجاعة هؤلاء الشبان وأطربتني بسالتهم؛ الواحد الأعزل المشدودُ الوَثاق منهم يتناوله بالضرب والإيذاء الجماعةُ من الرجال الأشداء المدججين بالسلاح، المدجَّجين حقيقةً لا على سبيل المجاز، وهو، هذا الأعزل البطل، يتلقى الضرب صامتاً رابط الجأش، لا يتأوه ولا يشكو ولا يرجو، ثم يقوم متعثراً بوثاقه ولكنه مرفوع الرأس شامخ الإرادة، ويتلقى الضربة من بندقية هذا ومن كفّ ذاك، وقد يترنح، ولكنه لا يسقط، بل يمضي بينهم بكل العزم والثبات.

تخيلت لو أني كنا واحداً من هؤلاء الشبان الأبطال، ماذا كنت أصنع؟ لعل صوتي كان سيعلو بالتأوه والنحيب، لعلي كنت سأرجو المعتدين ليَعْفوا عني ويكفّوا، أو ليخففوا بطشهم على الأقل... ربما صنعت أي شيء مما يصنعه امرؤ فَزِعٌ جَزِعٌ مرعوب، ولكنهم هم لم يصنعوا أي شيء من ذلك كله، ولم يسجَّل في سجلهم إلا البسالة والكرامة والكبرياء.

إننا نتعلم منكم اليومَ الشجاعةَ يا شباب سوريا، أما كيف استطعتم أن تقهروا في لحظة واحدة خوفَ السنين الطوال فلُغزٌ لا أعرف جوابه! أحسّ أني -لو كنت بينكم- لاحتجت إلى "إعادة تدوير" خمس مرات، أموت وأحيا ثم أموت وأحيا من جديد، حتى أغتسل من خوف وُلدت فيه وعشت عمري كلَّه في ظله، لكنكم أنتم نفضتموه عنكم بطرفة عين. كيف كان ذلك؟ إنها معجزة ستدوَّن في تاريخ سوريا ولن تنساها الأجيال الآتيات.

بوركتم يا شباب البيضة، بوركتم يا شباب بانياس واللاذقية، بوركتم يا شباب حمص والغوطة وحوران، بوركتم يا شباب سوريا، ولن يُهزَم شعب فيه مثل هؤلاء الرجال.

                

الثورة السورية: خواطر ومشاعر (2)

لن تُهزَم أمة فيها هؤلاء (2 من 2)

ما كدت أشبع من مشاهدة الفلم الأول الذي صوّر شبّانَ البيضة الأبطال، أولئك الذين علّمونا في مشهد طوله ثلاث دقائق كيف ينتصر الشابُّ الأعزل المجرد على صناديد الرجال المسلحين... لم أكد أنتهي منه حتى وصل الفلم الثاني، وهو يصوّر هذه المرة نساء البيضة وبانياس.

النساء اللائي كان يُنتظَر منهن أن ينكفئن إلى بيوتهن فيغلقنَ عليهن وعلى أطفالهن أبوابها والشبابيك، ثم يلتفِفْنَ برداء الذعر والخوف والهلع. أليس هذا ما ستفعله نسوةٌ اعتقل العدوُّ المتجبّر المتكبّر رجالَهن وشبّانَهن؟ ولكن لا، إنه ليس ما ستفعله اليوم لَبُؤاتُ البيضة! لقد أغلقن أبواب بيوتهن، ولكنْ من خارجها لا من داخلها، ثم مَضَينَ إلى الطريق في مسيرة مهيبة، يرفعن أصواتهن مطالِبات بذهاب قوم وعودة آخرين، عودة رجال البيضة وذهاب رجال النظام!

أقسم إن قلبي قد ارتجف بين أضلعي وأنا أرى حرائر البيضة يفعلن ما يعجز وما يجبُن عن فعله كثيرٌ من الرجال، ثم ازداد عجبي وطربي وأنا أرى نساء بانياس يجتمعن في مشهد حافل متضامنات مع الجارات في البيضة، فيقطعن الطريق... الطريق الدولي الذي يصل بين المدن يا سادة، لا طريق ضَيعة من الطرق الصغيرة الفرعية التي لا تكاد تمشي فيها السيارات. لقد رفعتنّ رؤوسَ الأمة يا نساء البيضة ويا نساء بانياس، ولا عليكنّ أنْ رفعتن أيضاً ضغط "المعلّم" (الذي لم يجدوا خيراً منه لوزارة الخارجية، فصمَّغوه في كرسيّها ليثبت عليه وزارةً بعد وزارة) ارتفع ضغطه وارتفعت نبرته وهو يجعجع هاتفاً: لن نسمح بقطع الطرق بعد اليوم... قطع الله لسانك يا معلم، وزادكنّ الله ثباتاً وفَخاراً يا حرائر الوطن!

ثم ما لبثنا أن وصلنا إلى لقطة الختام الرائعة العظيمة في مسلسل "ثورة الحرائر"، حينما اجتمعت نساء بانياس كما تجتمع النساء في الاحتفالات والأعراس، ولكنْ لا ليباركنَ لوالدة ولا ليغنّين لعروس، بل ليهتفن للحرية وللوطن، ولترتفع هتافاتهن إلى السماء وهن ينادين: الشعب يريد إسقاط النظام!

بوركتنّ يا حرائر البيضة، بوركتنّ يا حرائر بانياس واللاذقية، بوركتنّ يا حرائر حمص والغوطة وحوران، بوركتنّ يا حرائر سوريا، ولن يُهزَم شعب فيه مثل هؤلاء النساء.

                

الثورة السورية: خواطر ومشاعر (3)

أعجوبة الزمان

الثورة السورية كانت مفاجأة من العيار الثقيل، فقد كُبت هذا الشعب الأبيّ فسكت حتى ظن الناس أنه لا يثور، واشتد الظلم على هذا البلد الطيب وكُبِّل بالقيود، وطال ليلُه حتى استيأس أهله من طلوع فجر جديد.

لكن الله الكريم أراد غيرَ ذلك، فإنه لمّا تحرك الرجال الأبطال لتغيير هذا الواقع الكئيب على الأرض جاءهم التوفيق والنصر من السماء. إن الله آلى على نفسه أنه لا يغير ما بالناس حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأيُّ تغيير في النفوس أكبرُ من التغيير الذي نراه اليوم في أهلنا في ديار الشام؟ أولئك الذين تشكلوا في رحم الخوف، ووُلدوا في زمن الخوف، ونشؤوا في بلد الخوف، طَعِموا الخوفَ مع الطعام وشربوا الخوف مع الشراب وتنفسوا الخوف مع الهواء، ثم انتفضوا ذات صباح وقالوا: لا خوف بعد اليوم... وما لبثوا أن صنعوا الأعاجيب التي أذهلوا بها الدنيا!

إنهم لمّا غيروا أنفسَهم هذا التغيير العظيم بدأ القانون الإلهي يعمل معهم: {إنّ الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم}... لمّا غيروا ما بأنفسهم من خوف وإحجام إلى شجاعة وإقدام، ومن سلبية وتخاذل إلى إيجابية وعمل، ومن سكون وتواكل إلى ثورة وحركة، لمّا صنعوا ذلك تغير الواقع من حولهم، فكثّر الله قليلَهم وسهّل سبيلَهم، وبارك في إقدامِهم وثبّت على الحق أقدامَهم، ونقل الخوف والرعب من قلوبهم إلى قلوب أعدائهم... ولن يَخذلهم قانونٌ وضعه الله في الكون إن شاء الله.

إذا كان ذلك الرجل الشهير قد هرم من أجل هذه اللحظة فأنا أيضاً هرمت وأنا أنتظرها، هرمتُ ولم تأتِ فأيِسْت، فإن الأمل يُضني النفسَ إذا طال، واليأس إحدى الراحتين. كدت أوقن أني أودّع الدنيا قبل أن أرى يوم فرج، وظننت أني أموت ولا أرى قاسيون... ثم جاءت هذه المعجزة، معجزة الرجال الأبطال في ديار الشام! وفجأة تدفق الأمل إلى القلب الخاوي فبدأ ينبض بالحياة، فقد أشرقت على سوريا شمسُ يوم جديد وبدأ ينحسر عنها ظل ليل طويل، وأيقنت أن هذه الأمة لن تموت.

لا والله ما ظننت أني أعيش حتى أرى هذه اللحظة، لكنكم أنتم أوقدتم سُرُج الآمال، فبارك الله فيكم يا شرفاء الرجال، بارك الله فيكم يا أهل سوريا الأبطال.

                

الثورة السورية: خواطر ومشاعر (4)

الجسد الواحد

بعد أن أعيت انتفاضةُ الشعب السوري الأبيّ نظامَه المجرم بزخمها وانتشارها تفتقت عبقريته الاستثنائية عن الحل: بما أن قدرته على إخماد الثورة العارمة في سوريا كلها أمر مستحيل ويحتاج إلى قوات أمنية لا يملك -في أحسن الحالات- أكثرَ من ربعها، فليركز إذن جهدَه وقوّته وبطشه في منطقة واحدة ويرجئ الأخريات، فإذا فرغ منها انتقل إلى التي بعدها، وهكذا إلى أن ينتهي من هذا الصداع ويغلق إلى الأبد أبوابَ الثورة والغضب. أليس هذا ما فعله من قبل؟ ألم يضرب دمشق وحدها وحلب وحدها وحماة وحدها؟ فليكرر إذن خطة الأمس الغابر لحل مشكلته في اليوم الحاضر.

ولكن هذا النظام نسي أن ثيران الحظيرة -كما تراها عيناه- قد قرأت القصةَ من قبل وحفظتها عن ظهر قلب، فهي تقول له اليوم: تلك كانت حِيَلَك للقضاء على غضبات الأمس البعيد، فابحث عن غيرها لغَضْبة اليوم الجديد. لن نسمح لك بأكل الثور الأبيض بعد اليوم!

هذا من منظور النظام الذي يرى الشعب أبقاراً وثيراناً في حظيرة يورّثها الآباءُ للأبناء، أما بقر الحظيرة فيردّ فيقول: بل نحن بشر، لنا شِرعة ولنا دين، وفي ديننا وشِرعتنا أننا جسد واحد، إذا أوذي عضوٌ فيه انتفضت سائرُ أعضائه بالنجدة كما يتداعى الجسد كله للعضو المريض بالحُمّى والسهر... وصدق رسولنا الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم.

ضربوا درعا وظنوا أن المدن الأخرى لن تفتح فمها بشكوى ما دامت تعيش في أمان، فخرجت الجموع في حمص واللاذقية والقامشلي تهتف: "بالروح بالدم نفديكِ يا درعا". فاضطرب أمرهم وقالوا: لنترك درعا ونضرب حمص إذن. وفعلوا، فخرجت درعا ودوما وبانياس تنادي: "بالروح بالدم نفديكِ يا حمص". فحولوا الضرب إلى بانياس فخرجت حوران والغوطة وحماة وجبلة تصيح: "بالروح بالدم نفديكِ يا بانياس"... فما يدرون أيَّ مدينة يضربون ولا يعرفون كيف يتحركون، لأنهم كلما ضربوا مدينة جديدة ثوَّروا على أنفسهم المزيد؛ كانت المدن والبلدات والقرى الغاضبة خمساً فصارت عشراً، ثم صارت عشرين، ثم أربعين وستين وثمانين، وكل يوم ينفجر منها المزيد.

يوم الجمعة الماضي خرجت في باب الحديد في حلب الشهباء مظاهرة كبيرة لم تلبث جموعُ الأمن الحاشدة أن فرّقتها بعنف شديد، فدمشق وحلب هما رأس الجسد وقلبه، وسوف يدافع النظام عن نفسه فيهما ويدفع ثورتهما بكل ما أوتي من قوة وجبروت، لكن الإعصار القادم سيفوق كل ما يملكه من قوة ومن جبروت. فرقت قوات الأمن المظاهرةَ بعد انطلاقها بقليل، لكنها عاشت مدة تكفي لنسمع هُتافَها: "بالروح بالدم نفديك يا بانياس"، "وين النخوة وين؟"، "واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد".

نعم، نحن جسد واحد ولن نسمح بتقطيع الجسد إلى أوصال؛ لن تأكلوا ثورنا الأبيض بعد اليوم!

                

الثورة السورية: خواطر ومشاعر (5)

يا نظام: نحن وإيّاك على موعد

ماذا يستطيع أن يفعل النظامُ أكثرَ من ذلك؟ ها هو ذا يقتحم درعا ويهاجم جبلة ويحاصر حمص ويعتقل أهل دوما، وماذا بعد؟ قد يقتل منا مئة أو مئتين أو بضع مِئين، وقد يعتقل ألفاً أو عشرين ألفاً أو خمسين، وقد يحاصر ويقتحم مدينة أو عشراً أو عشرين... ليصنع ذلك كله، فإنه -مهما صنع- لن يقتل شعباً ولن تتسع سجونُه لأمّة!

وإنّا قد قلناها له أمس وأول أمس والذي قبله، ونقولها له اليوم: لن يبقى على هذه الأرض إلا واحد، أنت أو الشعب. والأنظمة تجيء وتذهب ولكنّ الشعوب تبقى، والأنظمة تموت والشعوب لا تموت. هذه هي خلاصة الحكاية وهذا هو آخر الطريق: أنت زائل ونحن باقون، ولكنك تطيل طريق الحرية علينا لنطيل عليك طريق الهروب، وتزيد معاناة هذا الشعب الأبيّ ليَزيدَ من بعدُ معاناتك، فكل جريمة بعدها عقاب، ومن أفلت من محكمة الأرض تلقّفَته محكمةُ السماء، وعند الله يجتمع الخصوم.

يقولون عن أمثالك إنهم كالوحوش فيظلمون الوحوش، وإلا فهل رأيت وحشاً اعتدى على مخلوق إلا ليأكل؟ الذئاب التي يَرَونها من أخسّ المفترسِات، لو أن قطيعاً منها كان في حالة من الجوع لا توصَف ووجد ألف ضحية فهل يبطش بألف ضحية؟ ما كانت الذئاب إلا لتفتك بما يُشبع جوعَها، ثم تترك الباقين وتمضي، أما أنت -يا أيها النظام المجرم- فلا تقتل لتأكل ولا تؤذي لتعيش، بل إنك لتستمتع بالقتل والأذى، ثم إنك تقتل ولا تشبع؛ قتلت منّا -من يوم وطئتَ أرضنا وتغلبت على كِرام قومنا- قتلت مئتَي ألف وغيّبتَ وراء الشمس مئتَي ألف، ثم لم تشبع!

يا إلهي كم يستطيع الإنسان -إذا تجرّد من الإنسانية والدين وكرائم الأخلاق- أن يؤذي الإنسان! ولكن لا بأس، فإنّا نعلم أن أيامك في انقضاء وأنك إلى فَناء، وإنّما النصرُ صبرُ ساعة. إنك تطيل علينا طريق الحرية، ولكنك تُثقل على نفسك الحساب، وكما قال ذلك المظلومُ للرشيد لمّا حبسه ظلماً: "إنّ كل يوم ينقضي من نعيمك ينقص من بؤسي، والموعد الصراط، والحَكَم هو الله".

يا أيها النظام: إنّ فيمَن مضى قبلنا وقبلك لَعِبرة، ولكن أين المبصرون وأين المعتبرون؟