قام بها الشباب .. لكنها ثورة أمة
نوال السباعي *
بارك الله في شباب الأمة ، هذا الجيل الأبيّ ، الذي أبى الرضى باستمرارالذل والمهانة ، ومعاملة الإنسان على أنه دابة أو جرثومة في أرض الحضارات والرسالات السماوية ، وأبى أن تستمر الأحوال في هذه الأمة على ماكانت عليه ، من التعامل مع المواطن وكأنه مخلوق في قطيع يتوارثه الطغاة أباً عن جد ، لارأي ولامشورة ولا مشاركة ولاحرية ولاكرامة ، وأبى أن يسكت على الظلم والفساد ، وسرقة مقدرات وأموال منطقة تعتبر من أغنى مناطق الأرض ،بينما تعيش الغالبية العظمى من مواطنيها تحت خط الفقرفي ذل وتخلف وإقصاء وعبودبة ، ويستمر نزيفها البشري هجرة ونزوحا طلبا للخلاص ، كما استفاد من الثقافة العالية التي توفرت لمن أراد ، في عصر العولمة والمعلوماتية ، وجمهوريات الأمن المقامة في العوالم الانترنيتية.
لاينبغي ونحن نحيي هذا الشباب المتألق الشجاع المجاهد ، الذي أدرك أدوات العصر ومفاهيم العصر وملابسات العصر، أن ننسى الفضل الكبير ,والضخم لمن سبقوه وعلموه وثقفوه ، وأمضوا زهرة حياتهم ، في الثبات على الحق ، وتسليمه أمانة للأجيال اللاحقة ، بعضهم قضى شطرا من عمره في سجون الطغاة ، آخرون قضوا نحبهم تحت آلات التعذيب الرهيبة التي لاتعرف إنسانية ولاأخلاق ، وفئة ثالثة أخرجت من أرضها راغمة أو مرغمة ، فروا بما يحملون من أمانة ، ماهانوا ولااثاقلوا وهم ينوؤون بحملها يوما إثر يوم ، وساعة بعد ساعة ، على الرغم من الأعاصير والدياجير والأهوال التي انتابتهم في الطريق .
أجيال كاملة من القيادات البديلة ، عملت السلطات الطاغية في مشارق المنطقة ومغاربها على استئصالها وإبادتها ، كيما تبقى ملتصقة في كراسي الحكم ، هي وأبناؤها وأبناء أبنائها إلى أبد الآبدين، أجيال كاملة من القيادات السياسية والفكرية والدينية ، من الكتاب والمفكرين وأساتذة الجامعات والصحفيين وصناع الرأ ي ، اجتُثت بكاملها من المجتمعات في المنطقة العربية ، قتِّلت وذبُِّحت، عُذبت وسُجنت ، نفيت أو خرجت هائمة على وجهها بما تحمله من أمانة في أعناقها ، وماإن استقر بهؤلاء المقام في أنحاء الأرض حتى بادروا باستئناف الدور الحضاري الثقيل الذي كان ملقيا على أعتاقهم جماعات أو أفراداً في تبليغ الأمانة للجيل اللاحق ، وقد فعلوا .
لقد عاشت المنطقة العربية مرحلة انتفاضة الشعب الفلسطيني مابين القرنين ، والتي جاءت نتيجة مباشرة للصحوة الإسلامية الشاملة التي شهدتها الأمة ، والتحديات الكبيرة جدا التي واجهتها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في أرضها ، ولدى الجاليات المهاجرة في الغرب ، والتي تعد بعشرات الملايين ، ولقد بدا واضحا للمراقب والباحث أن الشعوب في المنطقة العربية بدأت بتجاوز الحركات الإصلاحية بكل حساسياتها ، الدينية منها والقومية والعلمانية ، وشبّت عن الطوق ، وذلك لما عانته هذه الحركات من عجز عن تطوير نفسها ، وتجاوز أمراض الاستبداد التي أصيب بها الإنسان حاكما ومحكوما في المنطقة العربية ، ولكن هذا الواقع لاينبغي أن يجعلنا ننكر الدور الأساسي والكبير جدا الذي لعبته ، وخاصة الحركة الإسلامية في ميدان التربية الفردية والتنظيم الاجتماعي ، والحركات العلمانية والقومية في ميادين الفكر والتنظير، في طول المنطقة وعرضها وفي المهاجر ، في إيقاظ الضمير العام ، والحض على تنمية إرادة التغيير ، وتربية كثير جدا من العناصر التي أصبحت نهضة الأمة همها وهاجسها ، مع الأخذ بعين الاعتبار ماأخطأت به كل منها وماأصابت.
كما لاينبغي أن ننسى الدور الهائل لصحوة الإعلام الناطق بالعربية ، وخاصة في قطر التي تسلمت اللواء بعد القاهرة وبيروت ، وكانت ولادة مؤسسة الجزيرة بكل قنواتها وخاصة الناطقة بالانجليزية ، بدء عصر جديد للأمة ، لأمة لاتقرأ ، وفّرت لها القناة توعية كاملة بكل مايحدث في أرجائها ، كما وفرت للغرب ولأول مرة في تاريخنا المعاصر صوتا عربيا ناطقا بلغته ، قادرا على محاورته بما يفهم ، وقد تماشى ذلك مع ولادة قناة اقرأ الاسلامية ، التي لعبت في حينه دورا لايقل أهمية عن دور الجزيرة الإخبارية ، في نقل الثقافة والفكر الاسلاميين لمن لايقرأ من أمة اقرأ ، ثم ولدت الكثير من القنوات الشبيهة ، منها من استطاع أن يقوم بأدوار مشابهة كقناة الحوار والعربية والرسالة ، ومنها الكثير من الغث الذي كان له أدوار تدميرية في مجال الفكر والدين والسياسة والمجتمع.
وإذا ماتحدثنا عن الإعلام ، فلابد من الحديث عن الصحافة المقروءة ، والتي شهدت حركة بعث وتصحيح هائلين ، في أنحاء واسعة من المنطقة ، وخاصة في قطر ، حيث استضافت الصحافة القطرية مجموعة هائلة من مختلف شرائح الكتاب الصحفيين العرب ، وفتحت لهم أبواب صحفها الرئيسية ليقوموا بالتحليل والتركيب والنقد ، في حرية لم تشهد مثلها المنطقة من عقود ، وكان دور الصحافة المغربية على الرغم من التضييق والحرب وإرهاب الدولة ، دورا استثنائيا في الصمود والتحدي ، ومثل ذلك يقال عن الصحافة المصرية الالكترونية ، التي لعبت إلى جانب المدونات والمواقع الاجتماعية ، دورا مصيريا في ولادة ثورة الشعب المصري ، وقبله ثورة الشعب التونسي الرائدة.
إنها إذن ثورة أمة ،هذه الثورة بدأت من تونس ومصر، وإن قام بها وقادها الشباب ، ولاينبغي أن يلغى دور أجيال من القيادات السابقة ، والأجيال السابقة ، والمؤثرات الكثيرة التي كانت تصب في هذا الاتجاه من تحريك مستنقع حياتنا الراكد ، وقد وجب استذكار كل هذه المؤثرات في هذه الأيام المباركة ، التي قام فيها شباب الأمة باسترداد كرامتها ، وتركوا الطريق معبدا أمام الجماهير لاسترداد حريتهم وأمنهم وحاضرهم ومستقبلهم.
لقد استعملت السلطات في مصر هذه "الصياغة"- من امتداح الشباب والهجوم على القيادات البارزة- لتثبيت القطيعة بين الشباب قي ميدان التحرير ، وبين نخبة المجتمع المصري من كبار رجالاته في مصر وفي المهجر ، ولتبقى الثورة دون رأس ، ودون قيادة نخبوية حقيقية ذات وزن واحترام في الداخل والخارج ،تستطيع أن تأخذ بيد المجتمع المصري في مرحلة التغيير بالغة الخطورة هذه ، وسط أوضاع سياسية عالمية رهيبة الضغط ، لكننا نرجو أن لايكون الشباب قد وقع في هذا الفخ ، وان يتنبهوا الى ان المعركة الحقيقية قد بدأت الان ، معركة التعاون ، معركة التكامل ، معركة تحديد الأهداف بوضوح ، ورسم الطريق لتحقيقها في مرحلية ووضوح ، مصر هي ثلث المنطقة من حيث التعداد السكاني ، وهي بوابة الأمة نحو المستقبل ، وفيها مفتاح نهضة الامة ، وتحديد معالم العلاقة مع الغرب وربيبته إسرائيل ، التي زرعها في أرضنا ، والتي ملات الدنيا صراخاً بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ، المنطقة التي خنقت إرادات شعوبها ، ودمرت كرامتهم وحرياتهم ، واقتصادهم وبلادهم ، من أجل أن تبقى إسرائيل حارسة لمصالح الغرب فيها .
المعركة الآن هي معركة البناء ، هي معركة تنظيف حدائق مصر الداخلية والخلفية ، هي معركة إعادة بناء المجتمع وهياكله وبناه التحتية ومؤسساته المدنية ، هي معركة الإنسان ، مع الفقر ، مع التخلف ، مع الوهن ، مع الارتكاس ، إنها المعركة الحقيقية والتحدي الحقيقي الذي ينتظرنا جميعا.
لايمكن لأمة ان تحدد معالم المستقبل مالم ترسم خارطة الواقع ، ولايمكن لأمة ان تنظم علاقاتها مع الآخرين ، مالم تنظم العلاقات بين مكوناتها الإنسانية ، ولايمكن لأمة ان تنتصر على عدوها ، مالم تحقق انتصاراتها على نفسها في معارك التربية والأخلاق والنمو والبناء.
مصر اليوم بحاجة إلى شبابها وشيبها ، نسائها ورجالها، كبارها وصغارها ، عسكرها ومدنييها ، مسلميها وأقباطها ، أحزابها اليمينية واليسارية ، الدينية والعلمانية ، مثقفيها وجماهيرها ، مصربحاجة إلى رجالها في المهجر ، وكبار عقولها المهاجرة ، كما الذين صبروا ورابطوا ثلاثين عاما بانتظار الفجر ، مصر بحاجة إلى القرضاوي والعوا وعمرو خالد ، كما هي بحاجة إلى هيكل والهويدي ، والسعداوي والنقاش ، ورضوى عاشور ، ورجالات الأزهر ، ورجالات الفكر الإسلامي واليساري والليبرالي ، ممن نعرف ولانعرف ، من آلاف الجنود المجندة ، الذين انهمكوا ربع فرن في شق الطريق .
مصر بحاجة إلى الطليعة الشبابية المكافحة بالعلم والمستقبل والأمل وأدوات العصرالسلمية الشريفة ، كما "البلطجية" ، الذين جاهدت هذه الطليعة وصمدت وصبرت وقدمت الضحايا من أجل خلاصهم من نير العبودية ، وهم الحريصون على استئصالها واجتثاثها من فوق الأرض، لقد كان شباب مصر وتونس يسقطون قتلى وجرحى في ميادين الشرف ، على يد العبيد الذين تربصوا بهم واغتالوا شبابهم وثورتهم وكفاحهم في سبيل تحريرالعبيد من أدرانهم.
مصر اليوم بحاجة إلى الأمة ، والأمة اليوم بحاجة لمصر ، إنها المعركة ، إنها المعركة التي قادها وقام بها الشباب ، ولكنها معركة أمة مافتئت مرابطة في شرفات الصبر تنتظر الغد ، وقد هلت تباشيره من سيدي بوزيد ، احترق البوعزيزي لينير دياجير القهر ، ومزق جسد خالد سعيد ظلما وعدوانا ، وسالت دماؤه وكسرت أسنانه ، واقتلعت أظافره ، كالمئات من مظلومي هذه الأمة ، كل ذلك بانتظار هذا الفجر ، وقد جاء ، ماظننا أنه يأت ، ولكنه جاء ، حثيثا تقدم يمتطي عربات السلام ، والنور ، والصبر ، ليكتب التاريخ صفحة بيضاء ناصعة نقية ، من تاريخ أمة قدمت للعالم درسا في القيامة ، قيامة الشعب ، عندما يعرف أبناؤه كيف يقفون بشجاعة المقاتل في وجه الطغيان الأعمى ، وليس لديهم من أسلحة ، إلا إيمانهم بالله ، وإيمانهم بأن الصبح مازال يتنفس ، وإن كنا جميعا قد أعلنا موته ، وظننا أنه بعيد.
** كتبت نصف هذا الموضوع يوم الاربعاء 9.2 وأتممته يوم السبت 12.2.2011
* كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا