الشجرة الخبيثة

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

صحا الرجل من نومه , مرعوبا , وأخذ ينظر حوله , ويفتش في الغرفة التي ينام فيها بعينيه , تحت أضوائها الخافتة , فلم يلحظ  شيئا كان قد تغير , أو تغير , الزوجة تغط في نوم عميق , هادئة مطمئنة , وذهب ليطمئن على أولاده متجولاً في البيت , فكان كل شيء طبيعي

شرب كأسا من الماء , وبلل حلقه الجاف , من هول ما رأى في منامه , شغل تفكيره كثيراً بتلك الرؤيا المرعبة , لم يستطع أن يقنع نفسه , أن ذلك مجرد حلم رآه في المنام , حاول في داخله أن يبحث عن تأويل حلمه هذا

هل يمكن أن يكون هذا الحلم ناتج عن الوجبة الدسمة التي تناولتها قبل النوم ؟

يخاطب نفسه بذلك

ثم يجيب على السؤال : لا أبداً لم يكن سببه ذلك

قد يكون ناتج عن تجميع أفكار في ذاكرتي ربما تكون منذ طفولتي , ومواقف قد تعرضت لها أو سمعتها , أصبحت في عقلي متراكمة , لتعبر عن خوفي , بهذا الكابوس المخيف

ثم يعود لخوفه ليسأل مرة أخرى

ماذا يعني ذلك , أنا اعرف كثيراً عن علم النفس , بعضهم يقول إن الأحلام تعبر عن المستقبل بشكل صور , هذه الصور تحذر الشخص من وقوع خطر ما , يقول عالم النفس أتلر (كنت أنوي السفر في السفينة , ولكني شاهدت في المنام , أن هذه السفينة التي سو ف أسافر فيها ستغرق في البحر , فعدلت عن السفر , وبالفعل غرقت تلك السفينة التي كنت أنوي السفر فيها )

إنه لشيء مرعب حقا , أن تكون هذه الرؤيا معبرة عن المستقبل ؟؟؟!!!!!!

لكن في التفاسير العربية للأحلام , الخضار يدل على الخير , والشجرة تدل على الأم , يعني ذلك أن هذه الرؤيا , تعبر عن خير قادم , وهي ليست مخيفة لهذه الدرجة

فطمأن نفسه بهذا التأويل المريح , وعاد لنومه , وغط في نوم عميق

وفي الصباح خرج ليروي غرساته التي غرسها في الحديقة المنزلية , وشجرات وشجيرات الورد , المنتشرة في هذا المكان الرائع , حتى يبدأ يومه بقهوة الصباح الذي ستقدمه له زوجته الرائعة والحبيبة , وبعد أن انتهى من ري النباتات الموجودة , وجلس على كرسيه الموضوع بجانب طاولة بيضاء , لتضفي على المكان بهاء ورقة وجمالا , مع جلوس شريكة عمره أمامه , وتقدم له فنجان القهوة برقة ودلال , ويتبادلا حديث الصباح الراقي , المفعم بالحب والرضا والسعادة  , الممتدة عبر السنين التي قضوها مع بعضهما .

وفي هذا الجو البديع , الخضرة والماء والوجه الحسن , والرضا من الطرفين , وعلامات السعادة المرسومة  على وجهيهما , لتضفي على المكان بهجة وضياء , لأن الجمال لا يمكن الإحساس فيه ما لم يكن معتمراً في قلب الإنسان سعادة الحياة , والسعادة هي التي تشعر بالجمال , وليس الجمال هو الذي يأتي بالسعادة

وبينما يرفع فنجان القهوة لشفتيه , تصلبت يده , وفتح عينيه على آخرهما , وتبدل لون وجهه , وأخذ يحدق بنظره في مكان واحد من الحديقة , وانقطع صوته فجأة , وتوقف عن الكلام , فاستغربت الزوجة , من هذا التبدل المفاجأ الذي ظهرت على ملامح زوجها , وبهذه السرعة العجيبة

فقالت له ماذا حل بك يا حبيبي , هل توقف قلبك , وقامت من مكانها بسرعة , وصرخت من هول منظره , والذي انقلب فجأة كأنه أصيب بجلطة , قد تودي فيه إلى النهاية المحتومة لكل مخلوق , فضمته لصدرها ومسحت , ومسحت على جبينه بيدها الناعمة , وسمت بالله ,ودعت الله أن ينقذه , وأحست بأن جسمه يرتجف , وعرق بارد بدأ ينساب من جبينه , وقالت كلمني يا حبيبي , قل لي شيئا , أرجوك

ونظر إليها نظرة حزينة , مع ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه لكي يقول لها لا تخافي فأنا بصحة جيدة , وحتى تمسح دموعها والتي كانت تجري على وجنتيها لتبلل بقايا من خيوط حمراء لم تختف بعد من شدة الصدمة

عادت الزوجة لمكانها بعد أن اطمأنت على زوجها , وأكملا قهوة الصباح , ولم يكن قد أفصح لها عن شيء , إلا أنه قال لها , كأنني رأيت ثعباناً اختبأ تحت تلك النبتة الغريبة , ولم أرها هنا من قبل

وانصرفت الزوجة لعملها في البيت , وأسند ظهره إلى الكرسي , وبدأ يحدق بتلك النبتة , ليعيد الرؤيا التي رآها في المنام , ويرويها بتفاصيلها لنفسه , لعله يجد مخرجا يرضيه , أو يقنع فيه إحساسه , بأن هذا الشيء , إن هو إلا أضغاث أحلام

بينما كنت أجلس في مكاني هذا , وفي روعته وهدوئه , سمعت همهمة غريبة , نظرت لمكان الصوت , فوجدت رجلاً غريب الصفات, هيكله هيكل بشر , لكن قدماه كحافر البغال , ووجهه بشع جدا والعياذ بالله , وعلى رأسه قرنان , كأنهما قرنا ثور متجهان إلى الأعلى , وهو طويل جدا , ويضحك ضحكات مرعبة , فخفت من منظره المتحول من الطول إلى القصر , إلى الضخامة , مع أصوات وقهقهات , تخترق المكان كله , فلم يتحدث إلي , ولكن كان ينظر بعينيه أحيانا ناحيتي , ليخرج من عينيه كأنه لسان من نار يقذفه ناحيتي , وفي يده غرساً من نبات لم تشاهده عيني قبلها , فغرسها في الحديقة , وتوجه نحوي غاضبا , والشرر يتطاير من عينيه , ولكنه تطاول جسمه , وابتعد وجهه عني , وتحول لدخان أسود ليختفي في السماء , وما كادت نفسي تهدأ قليلا من شدة الرعب الذي أحاط بكياني كله , حتى أصابني رعب شديد , كادت أنفاسي تخرج من بين جنبي

الغرس التي وضعها ذلك المخلوق الغريب في الحديقة

أخذت أفرعها الصغيرة تكبر وتمتد , وتلتهم كل شيء تجده في طريقها , التهمت الأشجار والأزهار, ومن تجد في طريقها , إما أن يكون من أتباعها من البشر لينضم إلى بقية الحيوانات والحشرات والذئاب والكلاب المسعورة , أو تلقي فيهم لمرافقيها من شرار خلق الله

جاهدت نفسي وخرجت عن طوري , وحاولت مقاومتها , أو إحراقها , والتخلص منها

ندهت على أولادي , وجيراني , فالكثيرون منهم إما ماتوا أو قتلوا , أو هربوا خارج البلاد , أو استسلموا , وبالسمع والطاعة إلى الأبد

خرجت من المكان لعلي أجد من يسعفني , تجولت في الحدائق فلم أجد فيها إلا تلك الشجرة , كنت أشاهد أشخاصاً أعرفهم لكنهم صاروا أشباه رجال

الكل مشغول بأمور تافهة , الفضاء صار كئيبا , زرقة السماء اختفت , وانقلبت لسواد غريب

النسمات تبدلت فانقلبت لصفير مرعب

وبينما أبحث عن شيء من الماضي الجميل , وألتفت يمينا وشمالا , وإلى السماء السوداء فوقي, وجدت شعاعا من نور , يخرج من بين ذلك السواد , ينعكس على مكان قريب مني

ذهبت لذلك المكان , فوجدت بقعة من الأرض مكسوة بخضرة , وفيها بعض أشجار الزيتون , ومنتشرة فيها أزهار جميلة , فارتاحت نفسي قليلاً , مع حيرة شغلت عقلي , كيف يمكن لهذه البقعة أن تنجوا من الخراب والدمار , ولم تطل حيرتي كثيراً , عندما شاهدت رجالاً أشداء يقفون على حدود تلك البقعة , كأنهم قالب واحد , أو شخص واحد , مجتمعين تحت راية واحدة , وشعارهم الوحيد , سنقطع تلك الشجرة الخبيثة من جذورها ونحرقها ونحرق من فيها ومن تحتها

لقد مرت عدة عقود على رؤية ذلك الكابوس الفظيع , إنه يتذكره الآن , لقد مرت كل تفاصيله في حياته الممتدة عبر السنين , ومن ثم يبتسم ابتسامة شيخ طاعن في السن , عندما شاهد تلك البقعة من الأرض الجميلة , ويحتضن شجرة الزيتون بحرارة , ويقول

لقد جاء دورك لتنشرين الخير في كل البلاد.