لما نستشهد بنروح الجنة
سماح سليم شمالي
مع نسمات الصباح الدافئة .. مع قطرات الندى الجميلة .. مع زقزقة العصافير في وجه الصباح .. يردد يحيى : " لما نستشهد بنروح الجنة " فلا معنى للجمال ولا الطبيعة ولا كل ما أسلفت عند يحيى , ليس فهماً للطبيعة , ليس تذوقاً للجمال , إنها الفطرة .. إنها البراءة .. إنه الظلم ..
يحيى كغيره من أطفال العالم من يصحون من نومهم أنقياء الذهن يستقبلوا صباح أيامهم ولا يشغلهم شاغل ولكنها الحقيقة المرة فطرة الفلسطينيين ..
يبدو جيداً أن يحيى لا ينام إلا عند سماع تلك النشيدة فتبقى آخر كلمات دخلت ذهنه فحتماً سيحلم بها وتأكيدا سيشدو بها في الصباح .. غيري من الناس عديمي الإحساس سيمر على يحيى ولا يلقي له بال !
ولكن لأنني جرعت الكأس مرا .. وذقت الألم قهرا .. ورأيت الأنين قبرا .. طعنت سكاكين الظلم طفلا ..
غزة اسم عربي يعني العزة لغة وفي المصطلح النوم على أزيز الرصاص والحلم بالرد والقصاص و الاستيقاظ على الآهات والصراخ !
بينما أنا ذاهبة إلى المدرسة لا صوت .. لا حركة .. لا لون .. أتشح بالمشاعر الفياضة اتجاه صمت المدينة وكأني في الريف لا أكثر ..
تريثت قليلاً في المسير فلربما سأعاقب على التأخير المتكرر عن الدوام المدرسي وعندما أوشكت الوصول لنهاية الشارع بدأت بسماع صوت ما إنه صوت ذاك الطفل إنه صوت يحيى أوقفني صوت يحيى بضع دقائق وطرت بذهني إلى خارج فلسطين ..هناك حيث سوريا ولا أرى كيحيى من يغني " محلاها سوريا " حيث المملكة العربية السعودية علي أجد طفلاُ يبدأ صباحه بالغناء لوطنه لعلي أسمع صوت يغني " المملكة وطنا " إلى الأردن إلى ليبيا إلى المغرب إلى كل بقاع الوطن العربي فمنحت كل بقعة دقيقة ! علي أسمع شبيهاً ليحيى في حبه لوطنه فلم أجد ! ولن أجد ! يئستْ تحديتُ الواقع وتخيلت أنّي قد مررت بطفلٍ سعودي يستقبل صباحه بالنشيد لوطنه واعتبرت نفسي حصة أو الهنوف أو ما شابهن فمررن عنه وكأن حائطاً تكلم ! يا إلهي حتى الخيال لم أعد أقوى منه ..
ليس لأنه يحيى فحسب ولكن لأنني توأم يحيى مع فارق ثلاثة عشر عاماً , إنها توأمة الأنين فكلانا طعم جرعات المناعة ضد التخاذل وكلانا تلقن في مرحلة البستان معنى الصمود والإباء وكلانا تعلم في المسجد أن دنيانا إما حياة وكرامة وإما موت ولا ثالث لهما .. لأن كلانا رضع لبن الشموخ وكلانا ترعرع في أحضان المقاومة وحب الوطن !
أنا ويحيى .. شربنا من نفس الكأس , تذوقنا نفس الطعم , قضينا الأعياد بنفس الحال , عشنا وسنعيش ونموت بنفس الحال !
ما آلمني أكثر عندما أكمل يحيى وقال " لا تقولوا علينا صغار من هالعيشة صرنا كبار " ما بالك يحيى , لم ترى الدنيا بعد يا صغيري , أنت لم تزل طفل , ووثبت أكرر أنت أطفلٌ أنت طفلٌ أنت طفلْ .
وسال دمعي فيضاً , وجاءت الحافلة وذهبت بحيى فلربما أكمل نشيده بها , وبقيت وحدي أتأمل وضعنا القاسي أتذكر بيأس حالنا المشيب أتعمق بطفولتي وأطابقها بطفولة هذا الولد البريء !
يحيى .. كأني ألمح في عينيك صورة بطلٍ مكبل بالهموم و الأسى أرى في عينيك صورة طفل ٍ عشق معنى الفدى , يتراءى لي في عينيك صورة بطلٍ أرجوه تعالي أن تكون خليفته أرى في عينيك أسطورة جهاد , أرى في عينيك يحيى عياش !
حفتك عناية الرحمن يا يحيى , لن أنسى براءة الطفولة تلك الممزوجة بحب الوطن والفداء , لن أنسى صوتك ونشيدك الجبار , كلما مررت ببيتك سأتذكر تلك الكلمات ولن أنساها , ولن أنساها أبداً لن أنساها .
وبعد ,
بعد دقائق من الشرود أدركت أنني حتماً تأخرت , نظرت إلى ساعتي تلك المزعجة فأرى أنه لم يتبقى من الحصة الأولى سوى عشر دقائق ! بمعنى أوضح " سأعاقب لا مجال ولربما أطرد ولن أحضر الدوام " لأجلك يحيى.