ثورة تونس المباركة
دروس وعبر
د. أبو بكر الشامي
في تمام الساعة الخامسة بتوقيت تونس من مساء يوم الرابع عشر من كانون الثاني ( يناير ) لعام 2011 ميلادي ، وفي ساعة مباركة تستجاب فيها الدعوات من مساء يوم الجمعة ، العاشر من شهر صفر لسنة 32 14هجري ، استجاب الله لدعوات الملايين من أبناء الشعب التونسي المظلوم ، ودعوات أكثر من مليار ونصف عربي ومسلم ، ودحر الطاغية الظالم المتجبر ، المحارب لدين الله ، والمعتدي على حرماته ، واقتلعه من عرشه ، وفتح أبواب الحريّة مشرعة أمام الشعب التونسي المجاهد ، بل أمام شعوب الأمة العربية والإسلامية جميعها ...
وفي هذا الحدث التاريخي المبارك جملة من الدلالات والعبر للأمة نقف على أهمها :
* إن الملك هو كسوة ربانية ، يكسوها من يشاء من عباده ، وينزعها عمن يشاء مصداقاً للآية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم (( قل اللهم ، مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير )) . صدق الله العظيم .
* ولما كان دوام الحال من المحال ، وأن لكل حاكم نهاية محتومة مهما علا شأنه وطال زمانه ، لذلك فلا يغترّنّ حاكم بملكه ما دام الله نازعه عنه ، والعاقل من اتعظ بغيره ، وعمل على تحسين هذه النهاية بحسن الأعمال ، وحسن الختام ..
* والملك لا يدوم بالقوة وحدها مهما كانت عظيمة ، بل لا بد له من مقوّمات أساسية أخرى ، من أهمها : العدل ، والثقة ، والمحبة مع الشعب ، فلقد كان النظام التونسي المقبور مضرب المثل في البطش والظلم والإرهاب ، وكان وزراء داخلية الأنظمة العربية الدكتاتورية يتقاطرون إلى تونس بين الفينة والأخرى ليتعلموا من طغاتها فنون البطش والقتل والإرهاب وإذلال الشعوب ، فلما شاءت إرادة الله ، اقتلعت الظلم والظالمين من عروشهم ، فما نفعتهم كل مؤسساتهم البوليسية والقمعية ، وما حمتهم من نقمة الله الجبار ، وغضبة الشعب الثائر .
* إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، وإذا أخذ الله الظالم بعد طول إمهال ، فلا يوجد عاقل يصدّق توبته الماكرة ، ووعوده الكاذبة الخادعة ((حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنتُ أنه لا إله إلاّ الذي آمنَتْ به بنو إسرائيل ، وأنا مِن المسلمين.
الآن وقد عصَيْتُ قبْلُ وكنتُ من المفسِدين. فاليومَ ننجِّيك ببدنِك لتكون لمَن خلْفَك آيةً)) (آيات 90 92 سورة يونس )
إن تلعثم الطاغية بكلمات الندم في آخر ساعات حكمه ، واعترافه بغبائه وجهله بشعبه وأمته وعدم فهمه لهم طوال نصف قرن ماض ، وتغرير وخداع بعض المنتفعين له من أعوانه وجلاوزته .. كل ذلك لم يشفع له أمام زحف الجماهير الثائرة ((الآن وقد عصَيْتُ قبْلُ وكنتُ من المفسِدين )) .!!!
* إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب الطغاة ، لأن إرادة الشعوب هي من إرادة الله .
* لقد أحيت الثورة التونسية المباركة آمال الأمة العربية والإسلامية بإمكانية تغيير الطغاة في بلادنا بدون الاستعانة بالأجنبي الحاقد ، وخاصة بعد تجربة العراق المريرة والمحبطة ، فلقد أصيبت الأمة بخيبة أمل كبيرة بعد مأساة العراق المروّعة حتى شاعت المقولة التي تقول : نصبر على ظلم الطغاة ، ولا ندفع بأوطاننا إلى الهاوية.
فجاءت الثورة التونسية المباركة لتفتح أفقاً جديداً في حياة الأمة ، وتفجّر خياراً ثالثاً بين الظلم والاحتلال ، ألا وهو خيار الثورة الشعبية والتغيير من الداخل ...
* ولقد أثبتت الثورة التونسية المباركة بأن الشعب التونسي المجاهد ، والشعب العربي المسلم على وجه العموم ، شعب حرّ أبيّ كريم لا ينام على ضيم ، فهو وإن صبر لبعض الوقت ، إلا أنه صبر إيمان وعفّة ورجولة ، فإذا جاوز الظالمون المدى ، فقد حقّ الجهاد وحقّ الفدا ، فثار ثورته المباركة ، مقتلعاً عروش الظلم والظالمين .
* ولقد أذنت الثورة التونسية المباركة بانتهاء مرحلة في تاريخ الأمة ، وابتداء مرحلة جديدة فيها ...
انتهاء مرحلة الخوف والصمت وعدم المبالاة والصبر على الجوع والانحناء للطغاة ، وابتداء مرحلة العزّة والكرامة والحريّة ولفظ حصياة الصمت من الأفواه وانتزاع الحقوق بالثورة واقتلاع عروش الظالمين .
* ولقد أثبتت الثورة التونسية المباركة بأن بعبع الأمن والمخابرات الذي يحتمي به الطغاة ، ويخوّفون به شعوبهم ، ما هو إلا شبح كارتوني ليس إلا ...
وعندما يجد الجد ، وتثور براكين غضب الشعوب ، يلوذون في مخابئهم كالجرذان .
* كما أثبتت الثورة التونسية المباركة بأن جيوش الأمة لا يزال فيها الكثير من الخيرية ، بالرغم من الجهود الهائلة التي بذلها الطغاة لتركيعها وتحجيمها وتصفية العناصر الشريفة فيها ، وتحويلها من حامية للأوطان والشعوب إلى حماية الطغاة وجلد الشعوب ، ولكن الجيش التونسي البطل أثبت مرّة أخرى انحيازه للشعب والوطن والأمة على حساب الطاغية الجلاد .
* ولقد أثبتت ثورة تونس المباركة بأن طغاة الأمة وجلادي شعبها لا ينتمون إلى أوطاننا وشعوبنا انتماءً أصيلاً ، بل هم مجرد دخلاء قتلة للشعب ، ولصوص وسرّاق لثرواته وخيراته ، وفي أول لحظة يهتزّ فيها كرسيّهم ، وتتهدد مصالحهم ، تراهم يفرّون خارج البلاد ويتركوا سفينتها تغرق ، بعد أن كانوا هرّبوا كل ما سرقوه من قوت الشعب وأمواله ومدّخراته .
* كما أثبتت هذه الثورة المباركة كذب الأمريكان والغربيين في دعواهم الزائفة بأنهم حماة الحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم ، فهم يكيلون بألف مكيال ..
فعندما تثور الشعوب الإيرانية ، وشعوب أوربا الشرقية ، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ، لأن لهم في ذلك مصالح أنانية ضيّقة ، أما عندما يتعلّق الأمر بالشعب العربي المسلم ، فيسكتون سكوت أهل القبور ، بل يدعمون الطغاة والجلادين بكل أشكال الدعم المادي والمعنوي لسحق شعوبنا وظلمها وتجهيلها وتجويعها ...!!!
* كما أثبتت أيضاً بأن أمريكا والغرب ينظرون إلى أولئك الحكام الظالمين نظرة احتقار وازدراء ، فهم ليسوا أكثر من عملاء مأجورين ، سلّطوهم على رقاب هذه الأمة المنكوبة بهم لجلد ظهرها ، وتجويع شعبها ، وسرقة خيراتها ، وتنفيذ مخططات الأسياد الأمريكان والغربيين بين ظهرانيها ...
فإذا انتهت مهمّاتهم ، واستنفذوا أغراضهم ، رموهم كما يرمون المناديل الورقية بعد أن يمسحوا بها أحذيتهم . !!!
حدث ذلك مع أخلص عملائهم لهم شاه إيران وغيره من الطغاة ، ثم تكرر الموقف ذاته مع جلاد الشعب التونسي ، الذي خدمهم لأكثر من نصف قرن كما يخدم العبيد أسيادهم، وحقق لهم أكثر بكثير مما كانوا يحلمون به ، فلما لفظه الشعب التونسي الثائر أغلقوا أجواءهم في وجه طائرته الهائمة على وجهها في الآفاق ، وتركوه لمصيره البائس ، فهل يعتبر الطغاة والجلادون من مصائر أسلافهم المخلوعين .!؟
* ولقد أظهرت الثورة التونسية المباركة دور الإعلام الهادف والحرّ والمستقل في ترشيد صحوة الأمة ، وتشكيل وعيها ، وصناعة نهضتها ، و تفجير ثورتها ، وحراسة مكتسباتها ...
ولقد ذهب اليوم الذي تُذبح فيه مدينة عريقة مثل حماة من الوريد إلى الوريد على أيدي الطغاة والجلادين ، وبتواطؤ كامل من أسيادهم ، دون أن يعلم بذلك أحد في العالم.
لقد ذبح جلاوزة النظام السوري في حماة قبل حوالي ثلاثين سنة أكثر من أربعين ألف مسلم ، وضربوها بجميع أنواع الأسلحة ، بما فيها المحرّمة دولياً ، وهدموا عشرات المساجد ، ودمّروا أكثر من ثلث مباني المدينة فوق رؤوس ساكنيها من الأطفال والنساء والشيوخ ، وحوّلوا أحياء بكاملها إلى ساحات لوقوف السيارات ، دون أن تهتزّ شعرة في شارب النظام العربي الرسمي ، أو النظام الدولي ...
بينما أسقطت اليوم دماء الشهيد ( محمد بو عزيز ) أعتى طغاة العصر وجلاديه ، وحررت الشعب العربي التونسي كلّه من أغلاله ، و أعطت الأمة بأكملها دروساً خالدة في العزّة والكرامة والتحرر ، كل ذلك بفضل الله ، ثم بمؤازرة الإعلام الحرّ ...
ولقد رأينا من قبل الدور الرائد للإعلام المقاوم في صناعة النصر في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها ، فلنحرص على دعم هذا الإعلام وتطويره وترشيده ...
* أخيراً ، وليس آخراً ... أقول للحكام العرب والمسلمين ، الذين فيهم بقية باقية من شرف وغيرة وإيمان ، ودع عنك ، العملاء والمتصهينين والمتأمركين :
إن العدو ( الأنكلو –صهيو-أميريكي ) يستهدف الأمة بأكملها ، حكاماً وشعوباً ، ديناً وقيم ومبادئ وأخلاق وثروات ، ويتخذ من بعض ضعاف النفوس من حكامنا مطية لتحقيق أهدافه الخبيثة ، فإذا استنفدوا أغراضهم في خدمته على حساب شعبهم وأمتهم لفظهم وتخلى عنهم ، ضارباً عرض الحائط بكل ما يتبجّحون به من قيم ومباديء وأخلاق وصداقات .. إلخ
فمتى تصحون على هذه الحقيقة ، فترصّوا الصفوف ، وتنبذوا الخلافات ، وتدعموا الوحدة الوطنية ، وتطلقوا الحريّات العامة ، وتمزّقوا قوانين الطوارئ التي مضى على تطبيقها في بعض دولكم أكثر من نصف قرن ...!!!؟
إن السبيل الوحيد لحماية أوطانكم ، والدفاع عن أنظمتكم ، والمحافظة على مكاسبكم ، أمام هذه الهجمة الصهيونية الماكرة ، هو ليس بالهرولة إلى واشنطن ، كالمستجير من الرمضاء بالنار ، ولا بالارتماء في أحضان الكيان الصهيوني ، وتقديم المزيد من قرابين الطاعة له ، بذبح شعوبكم ، ومحاربة دينكم ، والتنكّر لأمتكم ...!!!
بل : برص الصفوف ، والمصالحة مع شعوبكم ، والمزيد من إعطاء الحريات لها ، وتفجير طاقاتها ، وتوحيد صفوفها ، وإفساح المجال لها لكي تأخذ دورها الكامل في صناعة نهضتها ومستقبلها ...
انظروا ، ما ذا فعلت شعوبكم ، في فلسطين والعراق وأفغانستان وتونس ، في أول فرصة أتيح لها أن تعبر ولو بالحد الأدنى عما تريد ...
لقد دوخت الانتفاضة الشعبية المباركة في فلسطين الكيان الصهيوني وقلبت كل حساباته الشريرة ، كما أربكت المقاومة المباركة في العراق الأمريكان وأحبطت كل مخططاتهم الخبيثة ، وأذهلت الثورة التونسية المباركة الدنيا ودوّخت العالم ...
حدث هذا والدنيا كلها تحاربنا ، بمن فيهم أنتم وحكوماتكم ، فكيف لو تفجرت هذه الطاقات المباركة في أحضان جيوشها ، وتحت رعاية قياداتها وحكامها ، وبدعم كامل من شعوبها وجماهيرها ...!!!؟
بسم الله الرحمن الرحيم (( إنما يستجيب الذين يسمعون ، والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون )) صدق الله العظيم.