نظرية الانتماء في الإسلام
د. معن الجربا
أعتقد بأن نظرية الانتماء في الإسلام تقوم على أساس أربع دوائر رئيسية كبرى يكمل بعضها بعضا دون أي تعارض أو تضاد، فأحد تلك الدوائر هي دائرة «الوطنية» أي الوطن الذي ينشأ فيه الإنسان فتتكون به ملامح شخصيته حيث إن الوطنية شعور فطري يتكون من عاطفة وولاء وانتماء سببه الولادة أو العيش في بقعة جغرافية محددة تتسم بثقافة معينة تشكل في نهاية المطاف هوية يتميز بها الإنسان عن غيره. وسنجد أن هذا الشعور من العاطفة والولاء والانتماء كان واضحا وجليا عندما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة وهو مهاجر إلى المدينة المنورة قائلا لها «والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت»، فالرسول الكريم قد ارتبط عاطفيا بالمكان الذي ولد ونشأ فيه فأصبح وطنه الذي ينتمي إليه.
ثم تأتي «دائرة القومية» حيث إن القومية جزء لا يتجزأ من التكوين الطبيعي في المحيط الجغرافي، فقد كان الرسول عليه السلام دائما ينادي من حوله من الناس بعبارة (يا أخ العرب) وهنا سنلاحظ بأن النبي قد اعتبر القومية والعروبة سببا في الأخوة مع الآخرين. لذلك فكل شعب من شعوب الأرض له الحق بقومية تميزه عن غيره من الشعوب الإنسانية الأخرى من خلال لغته وثقافته وعاداته وتقاليده، ولكن بشرط أن تكمل كل قومية من تلك القوميات بعضها بعضا في لوحة جميلة في نهاية المطاف وذلك مصداقا لقوله تعالى «وجعلناكم وشعوبا وقبائل لتعارفوا»، أي قوميات تقوم على أساس التكامل والتعاون والتلاحم لا على أساس التنافر والتناحر والعنصرية.
ثم «دائرة الدين» فقد قال الله تعالى «إنما المؤمنون إخوة»، وهذه الدائرة من أهم الدوائر في حياة الإنسان حتى يستطيع الوصول إلى مرحلة الاستقرار النفسي والعقلي في هذه الحياة، ودائرة الانتماء الديني لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع الدوائر الأخرى من دوائر الانتماء بل يكمل بعضا بعضا كما قلنا سلفا.
أخيرا الدائرة الأعم والأشمل في نظرية الانتماء الإسلامية ألا وهي «دائرة الإنسانية» فالإسلام يعتبر الإنسانية هي الرابط الأشمل والأعم لبني البشر حيث قال الله تعالى «هو الذي خلقكم من نفس واحدة»، وقال «ولقد كرمنا بني أدم»، وقد أكد سبحانه وتعالى بأن الأخوة الإنسانية موجودة بين البشر حتى وإن اختلفت الأديان والمعتقدات ويتضح ذلك بجلاء في قوله تعالى «وإلى عاد أخاهم هود»، وسنلاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد اعتبر نبيه هودا عليه السلام «أخا» لقومه على الرغم من أنه مؤمن موحد وهم كفار مشركون. كذلك ورد في السيرة النبوية أنه عندما مرت جنازة أحد اليهود فقام لها النبي عليه السلام واقفا، قال له الصحابة إنها جنازة يهودي يا رسول الله، فقال لهم متعجبا «أوليست نفسا؟؟» .. وأخيرا فقد جسد عليه الصلاة والسلام مبدأ حب الإنسان للإنسان وحب الإنسان لكل ما هو حي على ظهر هذا الكوكب بقوله «في كل كبد رطب صدقة».
وبعملية إسقاط لنظرية الانتماء الإسلامية هذه على وضعنا المعاصر سنجد أن الخلل في تطبيق هذا التكامل بين دوائر الانتماء هو الذي انتج لنا هذا الواقع المرير، حيث أن تعطيل التكامل بين الدائرة الوطنية والدائرة القومية هو الذي أنتج لنا دولا متفرقة وضعيفة وممزقة يطمع بها أعدائها من القوميات الأخرى، كما أن تعطيل التكامل بين الدائرة القومية والدائرة الدينية هو الذي انتج لنا مشروعا قوميا عنصريا هزيلا إنهار مع أول صدمة وأول امتحان، كذلك فإن تعطيل التكامل بين الدائرة الدينية والدائرة الإنسانية هو الذي انتج لنا مشروعا دينيا مشوها ينظر له الآخرون بعين الريبة والخوف لأننا جردناه من روحه الإنسانية المتأصلة في جذوره وفي مبادئه.