السؤال (63)
من أساليب التربية في القرآن الكريم
السؤال (63)
د.عثمان قدري مكانسي
هو من الطرق الأصيلة في تحصيل العلم ، فقد تجد معلماً ينصحك ، ويفيدك علماً ، ويوضح لك أموراً ، وقد يشكل عليك أمر فتسأله ، وتستفسره ، فيجيبك ، ويزيل الإبهام من نفسك ، وللسؤال فوائد مهمة منها :
1 ـ اكتساب معرفة ، وازدياد علم ، قال تعالى : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ))(1) .
2 ـ إزالة شك ، ودفع ريبة ، قال تعالى : (( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) ))(2) .
3 ـ استشهاد على موقف وتعزيزٌ له ، قال تعالى : (( )))(3) .
وسؤال الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ليهود المدينة ، لعلمهم بالحادثة مما لديهم في التوراة ، ليَظهَر لعامة اليهود وعلمائهم صدقُ ما ذكره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
4 ـ التعظيم والإجلال ، قال تعالى : (( )))(4) .
وهل يُسألُ عن عظمة الله سوى الله سبحانه ؟!!.
5 ـ التبكيت والتوبيخ ، فقد أنسى العذابُ الشديدُ في جهنّم الكفارَ والمشركين المدة التي لبثوها في الدنيا (( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) ))(5) .
6 ـ التذكير والاعتبار ، قال تعالى : (( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) ))(6) .
7 ـ التحدي . ومثاله ما حدث لإبراهيم عليه السلام ، من تحدٍّ لقومه حين كسَّر أصنامهم ، فسألوه عن الفاعل ، فنببهم إلى أن هذه الآلهة المزعومة لا تستطيع دفع مضرة عن نفسها .
فكيف تنفع الآخرين . . إنها لا تتكلم ولا تسمع . . قال تعالى : (( فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
يَنْطِقُونَ ))(7). .
8 ـ تنبيه الغافل كي لا يقع في الخطأ ، فقد نبه الله سبحانه المؤمنين أن لا يكونوا كاليهود
الذين سألوا موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة فضلّوا ، قال تعالى : (( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيلِ (108) ))(8) .
9 ـ السخرية والتهكم . ومثاله قول الله تعالى : (( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) ))(9) يسخر من الذين يسوّون المطيع بالعاصي ، والمؤمن بالكافر ، ويتقوَّلون على الله تعالى ما لا يعلمون ، فيطلب الله تعالى إلى رسوله الكريم ، أن يسأل هؤلاء المكابرين : أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون .
والذي نريده في هذا العنوان " السؤال " الفائدة الأولى اكتساب معرفة وازدياد علم .
ـ فمن أمثلة ذلك قوله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ))(10) فنبهمم بأسلوبه الحكيم ، إلى صلة الأرحام ، وعلى رأسهم الوالدان ، ثم مساعدة الآخرين المستحقين .
ـ وقوله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ . . . ))(11) وصحيح أن القتال في الأشهر الحرام كبيرةٌ لا يرضاها الله تعالى ، لكنَّ هناك ما هو أشدُّ وأنكى ، منها :
أ ـ اتخاذ كل الأساليب الخبيثة لصد الناس عن دين الله .
ب ـ وما تبعه من فتنة المسلم ليرتدَّ عن دين الله إلى الكفر .
جـ ـ وصدُّ من آمن من العرب عن بيت الله .
د ـ وإخراج المسلمين من أهل مكة عنها . . كلُّ هذا أشدُّ وأعظم وزراً من القتال في الأشهر الحرم . .
ـ وقوله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . . . ))(12) إن في الخمر والميسر منافعَ ماديّة ضئيلة ، ولكنَّ ضياع العقل ، وذهاب المال ، وتعريض البدن للمرض في الخمر ، وما يجره القمار من خراب البيوت ، ودمار الأسر ، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين ، . . كل ذلك محسوس مشاهد إذا قيس الضرر الفادح بالنفع التافه لهذين المنكرين الخبيثين .
ـ وقوله تعالى : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ . . . . ))(13) ماذا يفعلون بأموال اليتامى ؟ فكان الأمر أن يخلطوا أموالهم بأموال السائلين ، وينمّوها بالتجارة ، لأنهم إخوانهم في الدين ، وهذه الإخوَّة أقوى من رابطة النسب وحذّرهم الله تعالى من الخيانة وإفساد أموال اليتامى ، أوأكلها ، فهو مطّلِعٌ يعلم المفسد من المصلح .
ـ وقوله سبحانه : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى
أ ـ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
ب ـ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
جـ ـ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
د ـ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) ))(14) فبيّن الله تعالى حقيقة المحيض ، وأمَرَ المسلمين اعتزال نسائهم في حيضهنّ ، والمقصود عدم المعاشرة الجنسية ، لا عدم التقرب منهنّ ومؤاكلتهن ومجالستهن ، كما يفعل اليهود إذا حاضت نساؤهم ، فإذا تطهّرْن فالمعاشرة في المكان الذي أحلّه الله ، وهو القُبُل مكان الولد والنسل ، فالله يحب التائبين المتنزهين عن الفواحش والأقذار . .
ـ وقوله عزّ وجلّ : (( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) ))(15) فالله تعالى أحلَّ المستلذّات وما ليس منها بخبيث ، وحرَّم كلَّ مستقذر ، وأحلَّ لنا ما تصطاده الجوارح من كلاب وطيور نُعَلِّمها كيف تصطاد . فإن أكلتْ منها فلا نأكل منها ، وإذا اصطادت هذه الجوارح كما علَّمناها ذكرنا اسم الله تعالى عليها وأكلناها. . .
ـ وقوله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ))(16)
ـ ويقول سبحانه وتعالى : ((( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ
قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
أ ـ فَاتَّقُوا اللَّهَ
ب ـ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
جـ ـ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) ))(17) حين اختلف المسلمون في غزوة بدر على الأنفال ، فجمع بعضهم الغنائم من أرض المعركة ، وتابع بعضهم فلول المنهزمين من المشركين ، وكانت العادة أن مَنْ جمع الغنائم فهي له ، فاختصم المسلمون فيها ، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يعلّمهم أن همّهم يجب أن يكون منحصراً في الجهاد فقط ، فجعل الأنفال كلها لله ورسوله ، وليس للمسلمين شيء ، فلما أذعنوا لأمر الله ورسوله قسّمها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المسلمين على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله ، وطاعة رسوله ، وإصلاح ذات البين .
ـ وقوله عزّ وجل : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85 ))(18) سأل المشركون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أهل الكهف وذي القرنين ، فأجاب عنهم حين نزل جبريل بآيات توضح حالهم ، وسألوه عن ماهية الروح وحقيقتها ، فكان الجواب أنها من الأسرار الخفيّة التي لا يعلمها إلا رب البريّة سبحانه وتعالى ، وما عِلْمُ الناس إلا ذلك العلم الضئيل الذي يناسب عقولهم وقدراتهم .
ـ وقوله تعالى : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) ))(19) ، فوضح لهم في الآيات [84 ـ 98] (20) أنّه رجل صالح ملك المشرق والمغرب فسمّيَ ذا القرنين . وقد وضّحتْ كتب التفسير قصّته وأظهرت العبرة فيها .
ـ ومنها قوله تعالى : (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) ))(21) فالجبال يوم القيامة غير الجبال في الحياة الدنيا ، فهي الآن شاهقة ، ذراها تناطح السحاب ، وصخورها صماء ، وجذورها ذاهبة في الأرض . أما يوم القيامة فإن الله تعالى يفتتها كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فيطيّرها فيذرها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء ، ولا انخفاضاً ولا ارتفاعاً . . سبحان الله ما أعظمه . . قادر على كل شيء .
وفي القرآن الكريم أربعة عشر موضعاً يبدأ بقوله تعالى " يسألونك" وأرى فيها بعض الأمور التربوية أجملها بما يلي :
1- لا بد من السؤال ، فالسؤال باب العلم . ويجب السؤال عمّا ينفع . وترك ما لا يُفيد.
2- ومجيء الفعل بصيغة المضارع تنبيه إلى أن على المسلم أن يسأل ويتحرّى ، ويستفهم عما يفيده ، ولا يكِلّ عن السؤال .
3- والكاف في قوله " يسألونك" تنبيه إلى أنه علينا أن نسأل العالم فقط ، فهو الذي يدلنا على الجواب الصحيح ، أما الجاهل فيَضِل ويُضِلّ .
4-
5--
6- أن ينبه العالم المسؤول بعد الجواب إلى المغزى من الفهم والعمل كقوله تعالى في سورة الأنفال " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون " فالمرادُ التقوى والإصلاح والطاعة . .. وهذا مثال ينطبق على جميع ما أردناه من السؤال " يسألونك " فلتعُد إلى أسئلة القرآن التي ذكرناها .. والله ولي التوفيق .
7- وأنبه إلى أن سؤالاً واحداً من أربعة عشر سؤالاً لم تجئ الإجابة عنه لأنه عن موعد الساعة ( يوم القيامة ) وهو قوله تعالى " يسألونك كأنك حفيّ عنها ، قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " – الأعراف 187- فهو من علم الغيب الذي لم يطلع الله تعالى أحداً عليه .
(1) سورة النحل ، الآية : 43 ، وسورة النساء ، الآية : 7 .
(2) سورة يونس ، الآية : 94 .
(3) سورة الإسراء ، الآية : 101 .
(4) سورة الفرقان ، الآية : 59 .
(5) سورة المؤمنون ، الآيتان : 112 ، 113 .
(6) سورة الأعراف ، الآية : 163 .
(7) سورة الأنبياء ، الآية : 63 .
(8) سورة البقرة ، الآية : 108 .
(9) سورة القلم ، الآية : 40 .
(10) سورة البقرة ، الآية : 215 .
(11) سورة البقرة ، الآية : 217 .
(12) سورة البقرة ، الآية : 219 .
(13) سورة البقرة ، الآية : 220 .
(14) سورة البقرة ، الآية : 222 .
(15) سورة المائدة ، الآية : 4 .
(16) سورة الأعراف ، الآية : 187 .
(17) سورة الأنفال ، الآية : 1 .
(18) سورة الإسراء ، الآية : 85 .
(19) سورة الكهف ، الآية : 83 .
(20) سورة الكهف .
(21) سورة طه ، الآيات : 105 ـ 107 .