العربية بين العاميات واللغات الأجنبية
صراع من أجل البقاء!
د. صالح نصيرات
في صبيحة كل يوم تقريباً تطالعنا الصحف و المجلات و المواقع الألكترونية فضلاَ عن الدوريات والمجلات العلمية بمقالات ومقابلات مع المختصين وابحاث علمية رصينة يشكو كتابها من الحالة التي وصلت إليها اللغة العربية اليوم على ألسنتنا وفي مؤسساتنا التعليمية . ويتفق الكثيرون على أمر مهم يتعلق بالعربية ألا وهو أن الحالة العامة لهذه اللغة لا تسر، بل يذهب البعض إلى أبعد من الضيق و التبرم إلى إعلان النفير العام من أجل العمل الجاد لوقف مسلسل تدهور استخدام اللغة العربية. ولا اشك لحظة بأن هؤلاء الكتاب و الباحثين مخلصون للغتهم ومقتنعون بأن استمرار هذا التدهور يعني تشكل هوية ليست جديدة بالكلية تنقض على العربية بل تشكل هوية مزدوجة بسبب الاعتماد المستمر على استخدام العامية و اللغات الأجنبية.
والحقيقة المهمة التي لابد لكل من يهمه شأن اللغة العربية أن يقتنع بها بأن ااستخدام اللغة القومية (لغة الأمة) أو عدمه مؤشر حقيقي على الحالة العامة للأمة، تقدما وانحطاطاً. بل أكثر من ذلك فاستخدام اللغة القومية هو مؤشر على حالة الوجود من عدمه. فالأمة التي تعيش في كامل وعيها هي تلك التي تعيش لغتها في وعيها الحقيقي. وحالة الوعي هذه تعني أن الأمة تعيش حالة من الشعور بقيمتها الذاتية. وغياب الوعي تعني أن هناك خللا حقيقاً في الشعور بقيمة الذات.
وإذا نظرنا في مفهوم الوعي من الناحية النفسية نجد أنه يقترب من مفهوم الوجود المقترن بالتفكير كما قال ديكارت. ذلك أن الوجود يعني فيما يعنيه استخدام الطاقة العقلية الذاتية و الجماعية في بناء الذات.فالوجود ليس حالة فيزيائية حسية كما قد يتوهم البعض وكما توهم جن سليمان عليه السلام. فجن سليمان رأوه يقف مستنداً على عصاه دون محاولة منهم لاكتشاف الحالة الحقيقية لسليمان عليه السلام الذي خر صريعاً عندما وصل النخر في عصاه إلى مستوى لم تعد قادرة على إسناده.
ولما كانت الممارسة اللغوية تنطلق في الأساس من عملية التفكير، فلذلك فإن استخدام العاميات و اللغات الأجنبية بين أبناء العربية ، يمكن أن ينظر إليه من ناحية غياب حالة التفكير والوعي بأهمية اللغة الأم التي هي الفصحى و التي يجب أن تكون منطلق الممارسة اللغوية.
قد يجادل البعض بقولهم إن العامية هي اللغة الأم وليست الفصيحة. وهذه الرؤية جاءت من فهم لطبيعة اكتساب اللغة الأم. فاللغة الأم هي تلك اللغة التي يكتسبها الطفل من البيئة المحيطة بشكل مباشر ولما كان غالبية العرب يتحدثون بالعامية فقد أصبحت العامية هي اللغة الأم. ولو تحدث الآباء و الأمهات لأبنائهم بالفصيحة لتمكن هؤلاء الأطفال من اكتساب اللغة الفصيحة وهو أمر نراه عند بعض الأطفال ممن يولودون لأسر تهتم بالعربية وتتحدث بالفصيحة مع الأطفال.
والذين يتحدثون بالعامية أصناف، فمنهم المتعلم و منهم الأمي أو شبه الأمي. وقد يكون سبب الاستخدام العجز الحقيقي عن استخدام الفصيحة وهو أبين وأظهر من الأسباب الأخرى، لكنه يغلف هذا العجز بمسوغات ومبررات واهية ليس أقلها أن غالبية الناس لا يفهمون الفصيحة.
وعلاج مشكلة استخدام العامية على المستوى الفردي هو التدرب من خلال القيام بانشطة لغوية. فقد تكون تلك الأنشطة مستمرة أو في المناسبات المختلفة. فمن الأنشطة المستمرة القراءة وتلخيص المقروء شفاهة للذات أو لفرد من الاسرة أو زملاء العمل. أو كتابة ثم التدرب على إلقاء ما تم تلخيصه وكتابته. أما في المناسبات الاجتماعية أو تلك المتعلقة بالوظيفة، فقد يتدرب المرء على إلقاء محاضرة أو خطبة أو ماشابه ذلك بإشراف مختص في التدريب على الإلقاء.
أما مشكلة استخدام اللغة الأجنبية فهي عرض لمرض. أما المرض فهو حالة الشعور بالنقص لدى الكثيرين الذين يجدون في استخدام اللغة الأجنبية تعويضاً عن تلك الحالة. أو إظهار لحالة التفاخر الكاذب الي يعيش على وهمه بعض الناس. فقد يرى البعض في استخدام عبارات أجنبية خلال الحديث اليومي تعبيراً عن رقي موهوم في المستوى الثقافي أو الاجتماعي لا أكثر.
ولابد من الإشارة إلى أننا هنا لا نشير إلى الاستخدام المهني, فقد يحتاج بعض أصحاب المهن استخدام مصطلحات أو تعبيرات أجنبية. وهو أمر تمليه طبيعة المهنة وخصوصاً عندما يكون هؤلاء المهنيون قد تعلموا باللغة الأجنبية. لكن المشكلة هي أن يتحول الحديث بين المهنيين بلغة أجنبية بشكل تام أو شبه تام. كذلك الحال بالنسبة لطلاب المدارس الأجنبية. حيث إننا الآن أمام ظاهرة انتشار واسع للمدارس التي تعلم باللغات الأجنبية وهو أمر يمكن النظر إليه من زاويتين، أما الأولى فهي أن المتعلمين هؤلاء قد يئسوا من التعليم العام لما فيه من نواقص وعيوب كثيرة لا محل لمناقشتها الآن، وهو حق لهم لا ننازعهم فيه، على أنه من المهم ألا تكون لغة الدراسة ولا البيئة التعليمية باللغة الأجنبية تماماً وهو للأسف ما نراه في بعض المدارس حيث نجد المسؤولين"يتعقبون" من يتحدث بالعربية ويعاقبونهم على ذلك وهو أمر شهدته بنفسي وسمعته من الطلاب أثناء قيامي بتقييم برامج اللغة العربية لإحدى المدارس الأجنبية.
ولا يكفي ما تقوم به وزرات التريية و التعليم في بعض البلاد العربية من فرض منهج اللغة العربية و الدين الإسلامي والإشراف الموسمي على المدارس الأجنبية من خلال زيارات قصيرة وقليلة من قبل مشرفي اللغة العربية. فهذا العمل غير كاف لأن المدرسة تعطي اللغة العربية القليل من الاهتمام من خلال عدم تطوير قدرات المعلمين وتدريبهم المستمر على أحدث وأفضل الممارسات التربوية و التعليمية. فالمطلوب هو إلزام المدارس بتعيين معلمين أكفاء وتدريبهم بشكل مستمر تحت إشراف موجهين ومدربين محترفين.
إن هذه الحلول البسيطة و التي يمكن أن تعطي ثمارا مباشرة لسيت كافية لأن الأمر لا يتعلق فقط بطلاب المدارس الأجنبية أو الكليات العلمية في الجامعات. ذلك أن الحالة شبه عامة وتتعلق بالوجود القومي للأمة. فمهما قيل عن أهمية معرفة الآخر والحوار معه أو التبادل الثقافي و التقني فإن ذلك كله ليس مسوغاً مقبولاً لاستمرار الحالة.
إن مناقشة حال اللغة العربية والبحث عن الحلول التي يمكن أن تحول دون تشكل هوية مزدوجة لدى البعض لا تحله مقالة هنا أو وعظ لواعظ أو حتى مؤتمر علمي متخصص. وهذا لا يقلل من أهمية كل ما سبق ولا ننادي بالتوقف عن ذلك، لكن الحلول الحقيقية تلك التي تأتي عندما تصبح اللغة القومية في الوعي المباشر وخطورة الوضع يقلق الكبير و الصغير، المثقف ورجل الشارع. عندما تتولد لدى الجميع تلك الحالة ولا يقفون موقف اليائس أو المحبط . عندما يشعر الجميع بالتهديد الحقيق للذات وجوداً وعدماً عندها تتولد إرادة العمل للنهوض و الارتقاء.
إن صراع البقاء حقيقة لا مراء فيها ولا ينكره إلا متغافل ، ولا يمكن الاستمرار على هذه الحال ومن الضروري أن نتجاوز حالة اللوم التي نعيشها إلى حالة العمل الذي يؤدي بنا إلى إعادة اللغة العربية لتنطق بها ألسنة المتعلمين والمثقفين والسياسيين والتربويين وكل أطياف المجتمع وطبقاته.