نهاية طاغية

عبد العزيز كحيل

[email protected]

كعادته لم يعبأ الإعلام العربي بخير بالغ الأهميّة يثلج صدور الشعوب المضطهدة ومحبّي العدل في كلّ مكان، ففي يوم 22 – 12 – 2010 تناقلت وكالات الأنباء خبر صدور حكم قضائيّ من محكمة قرطبة بالأرجنتين يعاقب رئيس البلاد السابق جورج فيدلا بالسّجن مدى الحياة بتهمة تصفيّة خصومه السيّاسيّين واقتراف جرائم ضدّ الإنسانيّة، كما صدرت أحكام متفاوتة عن جنرالات كانوا يشاركونه السلطة.

وجورج فيدلا يبلغ من العمر 85 سنةً، وكان قد قاد انقلاباً عسكريّاً ضدّ رئيسة الأرجنتين المنتخبة إيزابيل بيرون سنة 1976 في خضّم سلسلة الانقلابات الّتي حدثت آنذاك في معظم دول أمريكا الجنوبيّة بتحريض من الولايات المتّحدة، وجاءت إلى السلطة بأنظمة عسكريّة يمينيّة حكمت بالحديد والنار، فألغت الحريّات وانتهكت حقوق الإنسان وصنّفت كلّ مخالفيها في خانة "الشيوعيين ومثيري الشغب"، وكان فيدلا أوّل رئيس للطغمة العسكريّة الّتي حكمت الأرجنتين إلى غاية سنة 1983 والّتي سجّلت المنظمات الحقوقيّة عليها جرائم قتل وتعذيب تعدّ بعشرات الآلاف، منها 30000 من المعارضين المختطفين الّذين لم يعثر لهم على أثر.

وكان هذا الجنرال السفّاح قد حكم عليه بالسجن المؤبّد غداة عودة الحياة الديمقراطيّة إلى الأرجنتين وتحديداً في 1985 ، لكنّ رئيس الدولة آنذاك – كارلوس منعم – أصدر قراراً بالعفو عنه، غير أنّ المحكمة العليا نقضت هذا القرار باعتباره غير دستوري ، بعد معركة قضائيّة طويلة استمرّت إلى غاية شهر أبريل 2010، كما ألغت تلك المحكمة العليا قرار العفو العامّ عن الجرائم الّتي ارتكبها أعوان الدولة أثناء فترة الحكم العسكريّ، وهذا الحكم نزع الحصانة عن فيدلا وأقرانه فسيقوا إلى المحاكم ليحاسبوا عن جرائمهم في حقّ أفراد شعبهم.

إنّ هذا الخير يكفي إيراده لبيان أبعاده، الشعوب الحيّة تعطينا دروساً في انعتاقها من أنظمة الاستبداد أولاً ثمّ ملاحقة جلاديها لينالوا عقابهم مهما طال الزمن ومهما تشعّبت الإجراءات، فذلك كلّه يهون أمام إعلاء صوت الحقّ وإدانة الدكتاتوريّة حتّى لا يبقى مجال لعودتها مهما كانت الظروف والذّرائع، وحتّى ينال الفراعنة جزاءهم ولو مرّت على جرائمهم أحقاب من الزّمن.

إنه  خبر يعيد الأمل لشعوبنا الّتي يئست من رؤية نهاية النفق لطول هذا النفق وشدّة ظلمته وقسوة الحياة فيه، لكن ها هي الحقيقة ماثلة أمامنا تؤكّد أنّ الشعوب الحيّة تنتصر في النهاية فتطيح بأنواع الحصانة الّتي يحيط الطغاة أنفسهم بها لتصل إليهم وتخضعهم لمحاكمات عادلة نزيهة شفاّفة ، وفاءً لضحايا الظلم والبطش الّذين لم تكن جريمتهم سوى رفض الاستبداد والتسلّط والقمع.

وينبغي التذكير بأن الحركة الاجتماعيّة الّتي دامت ثلاثاً وثلاثين سنةً وأدّت إلى معاقبة رموز الحكم العسكريّ في الأرجنتين قضائيّاً قد بدأتها في 1973 – أي في أوج حملة القمع الحكومي – مجموعة من النّساء سمّاهنّ الإعلام والمراقبون  " أمّهات ساحة ماي " ، أو " مجنونات ساحة ماي " ، وهنّ نساء اختطف أبناؤهنّ  من طرف أعوان النظام العسكري فبدأن التجمّع السلميّ في ساحة ماي المقابلة لمقرّ الحكومة كلّ أسبوع يطفن بها رافعات صور أبنائهنّ المختفين، وقد تمّ اغتيّال عدد من مؤسِّسات " منظّمة الأمّهات " في ديسمبر 1977 ، لكنّهنّ واصلن نضالهنّ السلميّ إلى غاية 2006 حيث بدأ رئيس البلاد في ذلك الوقت مساعي محاكمة المتسبّبين في انتهاك حقوق الإنسان ، وهذا ما يثبت أهميّة الجهاد المدنيّ المستند إلى الجمعيّات النزيهة الصادقة في سعيها لتأطير المجتمع من أجل حصوله على حقوقه وعلى رأسها الحريّة، كما يثبت أن للطغيان نهاية محتومة إذا استمرّ الشعب في رفضه ولم يحن له ظهره وقبل بدفع الثمن المناسب، وتبقى الكلمة في كلّ الأحوال للعمل السلميّ  - كلمة حقّ عند سلطان جائر -  ولمنصّة القضاء المستقلّ صاحب المصداقيّة الملتزم بالمعايير الدوليّة، يومها سينقل الخوف إلى الطرف الآخر ليلاحق الجلاّدين طول حياتهم وأينما تواجدوا، فلا حصانة لهم لا في بلدانهم الّتي قمعوها وآذوا أحرارها، ولا في البلاد الأجنبيّة الّتي فرّوا إليها واستقرّوا فيها ، حيث لا تحميهم القوانين الّتي سطّروها لتبرئة أنفسهم وجنودهم وفترة حكمهم، فجرائمهم لا تسقط بالتقادم، والقضاء مخوّل – خاصّةً في الغرب – للنظر فيها ومعاقبة كلّ مجرم تثبت ضدّه تهم الجرائم ضدّ الإنسانيّة الّتي تشمل انتهاك حقوق الإنسان بكلّ أنواعها.

أليس الصبح بقريب؟

لا يجوز للضحايا في أي مكان أن يسكتوا ، ولا مجال للنسيان إطلاقا لأنّ ذلك يغري الطغاة فيتكاثر عددهم ويتمادون في طغيانهم ، والانتهاكات ليست فقط حالات شخصية إنما هي بالفعل جرائم ضدّ إنسانية الإنسان ، لا تطالها المسامحة ولا التقادم ،والنضال السلمي والمتابعات الحقوقية من شأنها أن تخيف المستبدّين وتفرغ السجون من الأبرياء الأحرار وتحصّن المجتمعات من أنظمة التسلّط.