الأبعاد الإستراتجية لمشاريع السكك الحديدية العربية
الأبعاد الإستراتجية
لمشاريع السكك الحديدية العربية
د. لؤي بحري*
(محاضرة الدكتور لؤي بحري في ندوة "مركز الحوار العربي" بمنطقة واشنطن)
تجتاح العالم العربي الآن موجة حمى شديدة لتطوير قطاع السكك الحديدية. فقد ظل هذا القطاع العام لبناء البنية التحتية مهملاً والخطوط الحديدية التي هي موجودة الآن هي خطوط قديمة. وقد أدركت الدول العربية تدريجياً أهمية السكك الحديدية للربط بين أجزاء الدولة الواحدة وحتى عبر الدول العربية نفسها. والسكك الحديدية هي وسيلة نقل قليلة التكاليف نسبياً ويمكن ان تخدم كوسيلة لنقل البضائع والسواح والحجاج الذين يريدون زيارة الأماكن المقدسة علاوة عن التخفيف عن ازدحام الطرق الخارجية، كما وانها تخدم الأستراتيجيات العسكرية للدول المختلفة. وقد أمتدت الرغبة في انشاء السكك الحديدية العربية الى الرغبة بمد قطارات الأنفاق (المترو) داخل المدن نفسها، علاوة عن ربط شبه الجزيرة العربية بأوربا عن طريق تركيا للسكك الحديدية القادمة من سوريا الى تركيا او ايران. وهناك سكك حديدية الآن تربط بين دمشق وطهران عن طريق حلب وتركيا. وهناك مشاريع لربط القاهرة والخرطوم على ان تمتد تلك الخطوط عبر افريقيا الى مدينة الكاب في جنوب افريقيا.
فقد عمدت ليبيا الواسعة المساحة والتي لا توجد فيها حتى الآن اي خطوط سكك حديدية الى التوقيع على اتفاقات مع الشركة الصينية للسكك الحديدية وشركة سكك الحديد الروسية وشركات مصرية وفرنسية لمد سكة حديدية تربط بين شرق ليبيا بغربها وشمالها بجنوبها . وقد قٌدر طول القسم الرابط بين مدينة قابس التونسية ومدينة السلوم المصرية بألفين ومائة وثمانين كيلومتر. ولعل مشاريع انشاء السكك العربية الحديدية الأولى تعود الى مصر. فقد تم انشاء اول سكة حديدية مصرية عام 1856 حيث ربطت تلك السكة بين مدينتي القاهرة والأسكندرية. وتشاء الصدف ان تسقط أحدى عربات السكة (عام 1858) في النهرحيث غرق في الحادث الأمير أحمد ولي العهد المصري، وكانت النتيجة حصول أخاه اسماعيل على عرش مصر وتوج كخديوي على مصر، وكانت لدى الخديوي أسماعيل امالاً لمد سكة حديدية من القاهرة الى الخرطوم وتقوم الحكومة المصرية الآن بجهود كبيرة لتحديث قطاع السكك الحديدية التي شهدت حوادث ذهب ضحيتها الآف الأشخاص بين قتلى وجرحى في العشرة سنين الماضية. وتشهد المغرب الآن حركة كبيرة لتحديث خطوط السكك الحديدية، حيث يقوم الملك محمد السادس بنفسه بالإشراف على مد خطوط سكة حديدية من طنجة الى الرباط على غرار السكك الحديدية الفرنسية الفائقة السرعة، بالإضافة الى تحديث الخط القديم الذي يربط وجدة بالدار البيضاء عبر فاس والذي يعود الى عام 1919. والمغرب يعتبر من اكثر الدول العربية التي يزورها السواح الأجانب حيث يصلها حوالي ثمانية مليون سائح سنوياً.
وتقوم سوريا ولبنان بالتفكير بإعادة تسيير خط السكة الحديدية الذي يعود تاريخه الى عام 1895 لربط كل من بيروت بدمشق، علاوة على التفكير بربط دمشق بعمان بسكة حديدية يمكن ان تسهل نقل السواح الى سوريا التي تعمل بجهد على زيادة عدد السائحين اليها. كما وان هناك محادثات جارية بين سوريا والسعودية لإعادة احياء خط سكة حديد الحجاز الذي دُمر عام 1915 والذي كان يربط بين دمشق والمدينة المنورة مروراً بالعقبة في الأردن. ومن الناحية الأخرى، نجد ان السعودية بمساحتها الواسعة تعمل على مد خطوط سكك حديدية بين غربها وشرقها وجنوبها بشمالها. فهناك مشروع سكة حديد الحرمين للربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وقد تقدمت شركات عالمية متخصصة بتقديم عروض لتنفيذ هذا المشروع على ان تمتد السكة الى مدينة الملك عبد العزيز الأقتصادية بمحافظة رابغ يكون مجموع طوله 530 كيلومتر. وفي عام 2009 ذكرت المؤسسة العامة للخطوط الحديدية في السعودية انها لا تزال جادة في انجاز ما تسميه (الجسر البري) الذي يرمي الى ربط الخليج العربي بالبحر الأحمر حيث تؤكد السعودية ان هذا المشروع هو مشروع استراتيجي وتقدر تكاليفه بسبعة مليارات من الدولارات. وتنطلق هذه السكك الحديدية السعودية من ميناء جدة الأسلامي ويتصل بخط السكة الموجود حالياً بين الرياض والدمام بطول 950 كيلومتر تقريباً ويشمل ايضاً وصلة طولها 115 كيلومتر لربط مدينة جبيل الصناعية بالسكة. ويتوقع ان يحقق هذا المشروع الضخم الكثير من الفوائد التنموية للمناطق الرئيسية السعودية الكبرى وهي منطقة الرياض ومكة المكرمة والمنطقة الشرقية، إذ يتركز في هذه المناطق ما يزيد على 70 بالمائة من سكان السعودية والأنشطة الأقتصادية بالمملكة.
وتعمل كل من الأمارات العربية وقطر على مد خطوط سكك حديدية حديثة وفائقة السرعة. فعقب انجاز مشروع (المترو) في مدينة دبي عام 2009 تخطط حكومة الأمارات لربط الأمارات السبع بسكك حديدية حديثة، في الحين الذي وقعّت فيه قطر مؤخراً على عقود مع شركات المانية بمد سكك حديدية في انحاء الأمارة وكذلك مد قطار المترو في مدينة الدوحة على ان يتم انجاز هذه المشاريع عام 2016. وهذه المشاريع اهميتها بالنسبة الى قطر التي تواجه توسعاً كبيراً في الأنشطة الأقتصادية وحركة بناء واسعة يصاحبها انفجاراً سكانياً كبيراً، بالإضافة الى ان قطر سوف تستضيف كأس العالم لكرة القدم لعام 2022.
وترمي دول مجلس التعاون الخليجي ان يجري التنسيق فيما بينها لربط مشاريع السكك الحديدية المزمع انشاءها بحيث يمكن السفر بواسطة السكك الحديدية بسهولة بين تلك الدول. حيث تشكل دول مجلس التعاون خامس كتلة اقتصادية في العالم. وفي مطلع عام 2010 قالت وزارة النقل العراقية بأنها ستدعو شركات اجنبية لبناء شبكة سكك حديدية حول بغداد بتكلفة ثلاثة مليارات من الدولارات كما وان الحكومة العراقية عازمة على ترميم وتحسين خطوط السكك الحديدية المتداعية فيها وكان موضوع مساهمة شركات المانية في تطوير السكك الحديدية من المواضيع التي تباحث فيها رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، مع السلطات الألمانية اثناء زيارته لألمانيا عام 2008. وينوي العراق اعادة ربطه مع تركيا وعبر سوريا بواسطة سكة حديدية من بغداد فالموصل فحلب السورية ومنها الى تركيا وبقية انحاء اوروبا وذلك احياء للمشروع القديم لسكة حديد برلين - بغداد عبر اسطنبول الذي تبنّى مشروعه السلطان عبد الحميد قبل الحرب العالمية الأولى. وقد كان هناك سكة حديدية قائمة بين بغداد واسطنبول الى الماضي القريب ولكن العمل بهذا الخط توقف اثر الحروب التي مر بها العراق. وفي صيف عام 2010 قام العراق بتسيير خط تجريبي بين الموصل وحلب وتركيا برحلة واحدة في الأسبوع فقط.
وتنظر الكويت الى مشاريع السكك الحديدية بكل اهتمام حيث انها تأمل في ان تكون حلقة الترابط بين السكك الحديدية المزمع انشائها على الشواطئ الغربية للخليج العربي على ان تمتد خطوط السكك الحديدية منها الى العراق وايران. ويعتبر الوزير الكويتي الشيخ ناصر صباح الصباح من اشد المتحمسين لفكرة ربط الكويت بالعالم الخارجي عن طريق السكك الحديدية وكان اول من طرح عام 2000 فكرة ربط الكويت بالعراق وايران ومنها الى شمال ايران على ان ترتبط تلك السكة بسكة حديدية تمتد من الصين عبر دول آسيا الصغرى الى شمال ايران على ان يمتد هذا الخط الى جنوب ايران فالعراق فالكويت. واظهرت الصين مؤخراً اهتماماً كبيراً بإحياء مشروع سكة حديدية تمتد من الصين الى ايران.
ان من المؤسف ان نلاحظ اليوم ان السكك الحديدية القائمة داخل البلاد العربية تتوقف عند حدود تلك البلاد ولا تربط الدول العربية بعضها بالبعض الآخر. وان ارتباط الدول العربية بشبكة خطوط حديدية من المؤمل انجازها خلال العشرة سنوات القادمة، اذا ما قُدر لها التنفيذ، سيزيد من حجم النشاط الأقتصادي ونقل البشر والتكامل بين البلاد العربية حيث يعتبر الأمريكان مثلاً ان الوحدة الحقيقية الأقتصادية والبشرية في الولايات المتحدة الأمريكية لم تتم الا في عام 1869 حيث تم الربط بين شرق امريكا وغربها بواسطة السكك الحديدية.
*د. لؤي بحري / كاتب وأستاذ جامعي من العراق، مقيم في واشنطن، ومؤلف كتاب "سكة حديد برلين- بغداد، 1890-1914".
**(محاضرة الدكتور لؤي بحري في ندوة "مركز الحوار العربي" بمنطقة واشنطن)