في الخامسة والسبعين

حسام الحفناوي

الحمد لله الذي فَضَّل بالعَزائِم السَّامِقة بَعْضَ الشِّيْب على كَثِيْر من الشُّبَّان، فتَسامَت بصادِقِي العَزْم من أولئك هِمَمُهم الشَّامِخة إلى ذُرَى المَعالِي، وخَرَّت بمَسْحُولِي المَرِيْرة من هؤلاء إراداتُهم السَّافِلة إلى حَضِيْض القِيْعان.

وإذا أراد اللهُ تعالى بعَبْده خَيْرًا، وَفَّقَه لمُصاحَبة ذَوِي النُّفُوسِ الكِبار، ومَنَّ عليه بمُرافَقة أُوْلِي القُلُوب المُعَلَّقَة بالفِرْدَوْس الأَعْلى، فيَرْتَفِع بصُحْبَتِهم إلى أَعالِي القِمَم، ويَعْلُو برُفْقَتِهم إلى شَواهِق الصُّرُوح.

وقد صَحِبْتُ ـ بفَضْل الله تعالى ـ غَيْرَ واحد من الصِّنْف المَمْدُوح آنِفًا، ولَقِيْتُ ـ بمِنَّته سُبْحانه ـ الواحدَ بعد الواحد من أَضْرابِهم، في مَواطِن مُخْتَلِفة، وأَزْمِنة مُتَباعِدة، فجَهِدْتُ أن أَحْذُو حَذْوَهم، ورَجَوْتُ اللِّحاق برَكْبِهم المَيْمون.

لكنهم في هذه الأَعْصار أَقَلُّ من الكِبْرِيْت الأَحْمَر؛ لفُشُوِّ ثَقافة الاسْتِهْلاك ـ وإن شَحَّ المال ـ وأَنْدَرُ من الغُراب الأَعْصَم؛ لذُيُوع الوَلَع بالتَّرَف ـ وإن عُدِمَت أَسْبابُه ـ وأَعَزُّ من بَيْض الأَنُوق؛ لشُيُوع الشَّغَف بالتَّحْسِيْنِيَّات، وتَواطُئ الأَكْثَرِيْن على رَفْعِها إلى مَصافِّ الضَّروريَّات، وعَدِّها ـ عند التَّنَزُّل ـ في مَراتِب الحاجِيَّات.

ولئِنْ كانت مُطاوَلَة الثُّرَيَّا عَزِيْزة فيمَنْ عاصَرْناه من مَعاشِر الشَّباب، لقد كان من البَدِيْهَة أن تَصِيْر أَعَزّ فيمَنْ رَأيْناه من جُمُوع الشُّيوخ؛ فالهِمَمُ تَفْتُرُ بمرور الأَعْوام، والقُوَى تَخُور بتَتابُع الحَدَثان، والعَزائِمُ تَكِلُّ بتَعاقُب النَّوائِب، والإراداتُ تَضْمَحِلُّ بتَراكُم الهُمُوم والأَحْزان.

وقد كان عُمُومُ مَنْ صَحِبْتُهم من المُتَّصِفِيْن بما ذَكَرْتُ في شَرْخ الشَّباب، ومُجْمَلُ مَنْ لَقِيْتُهم من المَوْسُوْمِيْن بما وَصَفْتُ في حَداثَة العُمُر، ولرُبَّما قارَبَ بَعْضُهم الأَشُدِّ، أو جاوَزَها بقليل.

بَيْدَ أَنِّي حَدِيْثُ عَهْد بمَعْرِفَة شَيْخ مُكَرَّم، شَيَّخَه العِلْم والأَدَب قبل العُمُر والشَّيْب، وكَرَّمَه العَزْمُ وخَفْضُ الجَناح قبل أن تُكَرِّمَه الهَيْئات والمَحافِل.

ذَكَّرَتْنِي هِمَّتُه العالية ـ رُغْم بُلُوغه الخامسة والسبعين ـ بهِمَم شُيُوخٍ عانَقُوا النُّجومَ بعد أن شابَتْ لِحاهُم، وناطَحُوا السُّحُبَ بعد أن ابْيَضَّتْ رؤوسُهم، فأَحْيَت الذِّكْرى في القَلْب الشُّجُون، وأَيْقَظَتْ في النَّفْس التَّشَوُّفَ لأَمْجاد غابِرة.

لقد كان أَمِيْر إفْرِيْقِية والمَغْرب من قِبَل الأُمَوِيِّين موسى بن نُصَيْر رحمه الله تعالى يُباشِر القتال بنَفْسِه، وهو في أواسِط العَقْد الثَّامِن من عُمُره، حين كان يَفْتَح بلادَ الأَنْدَلُس، وجنوب فرنسا، ويَتَطَلَّع إلى فَتْح رُوْمِيَّة، ثاني المُدُن المُقَدَّسة عند نَصارى أوروبا، ومَقَرّ الكاثوليكيَّة في العالم، وعاصمة الإمبراطورية الرُّومانية لقُرُون عديدة، ومَهْوَى أَفْئِدة أَكابِر الأوروبيين، ورِعاعِهم على حَدٍّ سَّواء.

وكان أَمِيْرُ دولة المُرابِطِيْن الضَّخْمَة يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى يُقارِبَ الثَّمانِيْن عامًا يوم أن قاد جَيْشَ المسلمين في مَعْركة الزَّلَّاقة الخالدة، وكان يَتَعَرَّضُ للشَّهادة يَوْمَها؛ رَجاء أن يَنالَها.

وكان الشَّيْخ فَرْحان السَّعْدي رحمه الله تعالى في أواخر العَقْد الثَّامِن، وأوائل العَقْد التَّاسِع من العُمُر، حين شَرَع يُجاهِدُ الاحْتِلال البريطاني البَغِيْض لأرض فلسطين المسلمة، ويُصاوِلُ اليهودَ الذين وَطَّنَتْهم بريطانيا في تلك الأرض المُبارَكة.

وكان الشَّيْخ أحمد ديدات رحمه الله تعالى يَطُوف العالم وهو في العَقْد التَّاسِع من عُمُره، فيُناظِرُ القُسُسَ بذَكاء إياسِيّ، ويُفْحِمُهم بذاكِرة بُخارِيَّة.

اللهم ارْزُقْنا هِمَمًا عالية، لا تَرْضَى بما دُوْنَ الجَنَّة، ونُفُوسًا تَوَّاقَةً للمَعالِي، لا تَقْنَعُ إلا بإحْدى الحُسْنَيَيْن.