المستشرفون
صناع المستقبل
زهير سالم*
يُطرح الاستشراف منذ أكثر من عقد كعلم له قواعده ومناهجه وميادينه، وله مدارسه ورواده أيضا. يؤكد هؤلاء الرواد أن الاستشراف الذي يتحدثون عنه مفارق كليا للشعوذة والكهانة والتنجيم، ومفارق كذلك للفراسة والحدس كبعض طرائق معترف بها للمعرفة. وهو مفارق في الوقت نفسه للتجارب الروحية الإشراقية والمعجزات الربانية والمبشرات والكرامات الدينية. إنه علم يرسم ملامح المستقبل من معطيات الحاضر، ويحاول من ثم التدخل في التأثير فيه بقطع الطريق على المولدات أو المدخلات السلبية، وتمكين كل ما يعزز المخرجات الإيجابية كما ونوعا، هذا من وجهة نظر المتدخلين بكل تأكيد..
يمعن السائق في أفق الطريق ليتجنب المفاجآت. يطلب إلينا قائد الطائرة أن نشد الأحزمة لأن الخارطة الجوية أمامه تحذره بأنه يستقبل عددا من المطبات الهوائية. يتحرى التاجر سلفا معطيات السوق ليجنب نفسه خسارة أو ليحقق المزيد من الربح. نتدثر بمعطف إضافي أو نحمل المظلة بنظرة إلى الأفق، وإن لم نتابع الراصد الجوي..
بعد أن توجه هرقل ملك الروم في دمشق، إلى أبي سفيان ببضعة أسئلة عن محمد ( صلى الله وسلم عليه ) وأصحابه؛ قال عن النبي: ليملكنّ موضع قدمي.
على الصعيد الفردي كما على الصعيد الجماعي هناك قوانين للتاريخ حاكمة، هناك مدخلات الحاضر التي تصنع المستقبل وهذه المدخلات هي التي يُعنى بها علم الاستشراف وهي التي تشكل موضوعه وتشغل رواده.
الاستشراف كما قلنا ليس كهانة، ولا هو محاولة على طريقة ( البصارة ) لإشباع فضول الإنسان في استعجاله لإبعاد القلق على مستقبله. إنه لا يبحث عجلا عن مواصفات الحبيب المقبل، ولا عن نتيجة مباراة كرة قدم كما كان يفعل الأخطبوط ( بول ). بل هو مهارة تقوم على القدرة على التقاط رؤوس الخيوط من بداياتها في الحاضر والسير بها ومعها إلى نهاياتها في المستقبل.
هو عملية استقراء علمي يعتمد سنن التاريخ وقوانينه من ناحية، ويتابع مدخلات الفعل الإنساني في العلاقة بين الكينونة والصيرورة من ناحية أخرى. وهو بالتالي محاولة للسيطرة على عرائس المسرح في المشهد القادم بإحكام السيطرة على الخيوط الفاعلة.
يشكل هذا العلم مدخلا صالحا لقراءة المستقبل في الواقع ، وكل آت قريب ، فيشكل بذلك دعوة مفتوحة لإعادة فرز القوى على أسس علمية محضة، وليس على أسس عاطفية فقط.
لم يكن لنا يد في صنع الأمس الذي مضى، وهاهم يحولون بكل ثقلهم بيننا وبين صنع اليوم الذي نعيش، ولن يعجزنا عن صنع غدنا الأجمل إلا عجز أو كسل...
يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر حول مدينته خندقا تحصنا من خوف، ويشد وأصحابه على بطونهم حجرا من الجوع؛ فتت الصخرة الكأداء بضربة معول وقال: الله أكبر.. إنني أرى كنوز كسرى وقيصر..
فهل فينا من يرى ما رأى في وجوه المحرومين والمضطهدين والمعتقلين والمشردين..؟! إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.
اكذبوا أنفسكم، عطلوا عقولكم، أغمضوا أعينكم، زيدوا جرعات الماراغونا السلطوية ما شئتم فكل ما تزرعونه تحصدونه..
قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية