صورة زيتية مدهشة في معرض رسام
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
على الأغلب منذ أكثر من ثلاثين سنة ما زرت معرضاً للرسم , ولكن اليوم عندما كنت أتجول في الشارع في مدينة تركية اسمها غازي عنتاب , مترقبا آذان العشاء , حتى أذهب للصلاة
وأنا قريب من الجامع , شد انتباهي قطعة قماش مكتوب عليها باللغة التركية , ومع أن لغتي التركية ضعيفة , ولكن وجدت كلمة تركية عربية المنشأ تعني الرسم , أمام بناءٍ جميل
شدني الفضول للمعرفة الفنية هذه المرة , ودخلت المكان وولجت قاعة العرض , فلم يكلمني أحد ولم أسلم على أحد , وتجولت في القاعة أنظر للوحات المعروضة والموقعة باسم (كريم) وورقة صغيرة مكتوب عليها سعر اللوحة
وقفت أمام إحدى الصور , وتأملتها وتفحصتها بعين الناقد , وتلمستها بعقلي وبفكري وبقلبي
سعرها ألف دولار , في كل حركة ريشة فيها بدت لي قصة , هذه القصة لا تعبر عني فقط أو عن شخص أو مجموعة محددة من البشر
تروي الصورة مأساة العالم المتخلف , تقول للناظر إليها :
إن كنت منا ومن بين أضلعنا فانظر ماذا فعلت بنفسك وفينا
ليس الذنب ذنبي وقلة فهمي وخفة عقلي وأميتي وفقري , ولكن الذنب يقع عليك قبلي
فإن مت اليوم جوعا , فقد مت أنت قبلي
فلا المال ينقصني ولا الخير بعيد عني , ولكنك كما تراه فهو ليس لي ولا لجدي وابني
ملكي عبوة من رمل أحملها وهي ملكك أيضا , ولا تحسبن حبتي اللؤلؤ فوقها مناصفة لي ولبعلي
أو أنها مناصفة , إليك حبة منها ,ولي ولأحفادي حبة واحدة , لعمري لهو حلم قد حلم فيه جدك قبل جدي
ألا تراني كيف وضعتهما ؟
حبتين من لؤلؤ فوق عبوة رمل تزينها , فهي هدية أو قل أنا خادمة أو عبده أو مملوكة , وضعتها فوق عينة من تربتي لأقد مها هدية لمن استباح دمك ودمي
هو القاتل وهو الغاصب وهو المحتل وهو المعتدي وهو المجرم والشرير وكل أنواع إبليس , ومع هذا كله هذه له هدية ماسية في يد صاحبها ليتنعم فيها ونفسي راضية مرضية
وأنا وأنت كما ترى ليس لنا إلا حفنة من رمل , وإن كان لنا حظ تكون فوق لحدي ولحدك قبلي
رفع الأذان حاولت الخروج وصلت الباب , شدتني الصورة مرة أخرى عدت إليها , أتأمل فيها أقرأ ما بداخلها قراءة جديدة , أبتعد عنها بضعة أمتار , فأجد جسمي قد تحول إليها مرة أخرى
فتاة افريقية صغيرة لم يتجاوز عمرها العشر سنوات , تلبس عباءة سوداء , مغطاة من رأسها حتى قدميها , ماعدا جانب من وجهها وعينها اليمنى
عباءة يبدو عليها القدم والقذارة والذباب يعلوها على أماكن متفرقة , وتحمل بين يديها عبوة صغيرة من الرمل مستطيلة الشكل وعليها حبتي لؤلؤ
عجبت من نفسي وعجبت أكتر من سحر جاذبية المعنى لتجعلني أكاد أفقد الصلاة من شدة تعلقي فيها ولهذه الدرجة كأنها ابنتي شهد التي لم أرها منذ ثمانية سنين وقبل ولادتها
وجدت فيها واقعنا العربي والإسلامي والواقع الإفريقي بحياة الفقر والحرمان التي نعيشها ,ونحن نمتلك كل ثروات العالم , ومع ذلك نحن أفقر الناس وأشدهم حرماناً وأكثرهم تخلفا
وجدت في طيات عباءتها رصيد الدولار الأمريكي المزور والذي لا يقابله رصيد , ماعدا بيع المنتجات النفطية العربية بالدولار , وكل الذباب الذي على عباءتها , طيران وصواريخ ومدمرات صنعت من خزائننا , وبيعت لنا بأضعاف أسعارها ولم نحصل إلا على حشرات مُقرفة تعلو أجسادنا جيلا بعد جيل
تركت المكان متعلقا قلبي بالصورة تلك , وذهبت لبيت الله لعلي أجد هناك راحة وقتية تسعفني في الدنيا والآخرة
ودعوت الله وناشدته ومع أنني أشعر بداخلي بحياء كبير من مناشدتي لرب العالمين , فقد وجدت نفسي أمامه سبحانه وتعالى معاتباً بفتح التاء , وهو كأنه يخاطبني ويقول يا عبدي:
لقد خنت الأمانة ونكست عن طريقي , فهاهي حالك وحال من حولك وحال الأمة التي تنتمي إليها , فالشر من عندكم والخير من عندي
وخرجت من بيت الله هائماً على وجهي :
فلا البيت بيتي ولا الوطن وطني ولا الدار داري
فبأي صيغة أصف واقعي:
شعوب تربعت فوق ترف الذل والفقر والحرمان , ونالت العبودية مكانا مرموقا عندها , وتقلصت الكرامة وتقلصت الأرض وتفتت الجمع وفسدت العينات , ومع هذا كله لازال هناك بقية من خير , يمكن تنميته وبسرعة عجيبة في قلب الكل , بعيداً عن التسامح بمجزرة حية صاعقة لا تبقي ولا تذر من رؤوس الشياطين.