مسيرة الإنتاج الأدبي المحلي وواقع القراءة
د. حبيب بولس *
هل هنالك ازمة قراءة محلية؟
سؤال يستمد شرعيته من عدم رواج الكتاب المحلي اليوم كما يجب، إنه السؤال الساخن الذي يطرح دائما في كل ندوة حول ادبنا المحلي او في كل حديث يدور بين الادباء حول انتشار كتابنا المحلي الذي يلقى الجهد الكبير كي ينتشر ويوزع ماديا ومعنويا.
وسؤال آخر ينبع من خاصره هذا السؤال، هل الازمة ازمة محلية خاصة؟ ام انها ازمة عربية عامة؟!
كي نجيب عن هذين السؤالين بجدية وموضوعية، علينا ان نفحص عددا من الامور المهمة، وذلك لأن الكتاب أي كتاب لا يقف في الساحة لوحده اليوم، بل هناك عدد من الأشياء تتحداه وتتنافس معه وتحاول ان تقلل من دوره، وهذه الاشياء ليست أقل قيمة من الكتاب. كما أن هناك عددا من الجهات يجب أن نرى اليها لما لها من علاقة مع الكتاب مهما كان نوعه.
v من السهل جدا لدى طرح هذا السؤال على الكاتب أن يجيب بنعم، هنالك أزمة قراءة وبمثل هذه الاجابة السريعة يرفع الكاتب المسؤولية عنه ليلقيها على القارئ، ولكن هذه الإجابة لا تقنع القارئ كما أنها لا تقنع أحدا إذا لم تكن مدعومة بالاثباتات والبراهين ولعلّ الكاتب يملك منها بعضها فمثلا حين يحدثك عن هذه الازمة يقول: أنا أطبع خمسمائة نسخة من كتابي فلا أبيع منه سوى العدد اليسير، أليس هذا كافيا للتدليل على وجود هذه الازمة اللعينة. ومن الطبيعي وهو يجيب عن هذا السؤال ان ينسى او يتناسى الحديث عن مستوى الكتاب الذي طبعه أو حاول نشره. وهل يستحق هذا الكتاب اهتمام القارئ؟ وهل فيه ما يجذبه فيدفعه الى التفتيش عنه على رفوف المكتبات.
v واذا تركنا الكاتب يدافع عن كتابه وهذا حقه خاصة في غياب حركة نقدية وحاولنا بدورنا التصدي لهذه الإشاكالية نقول بكل موضوعية ومسؤولية ومأسوية في آن معا: نعم هنالك أزمة قراءة عندنا، ولكنها ليست أزمة خاصة محلية بل هي أزمة عربية عامة. ولإثبات ذلك عربيا لا نحتاج الى بذل جهد كثير او لا نحتاج القيام بإحصائيات رياضية نسبية، بل يكفينا ما نسمعه أو ما يصل الينا عبر الصحف العربية من مرارة تنبع من أكبر كتابنا وشعرائنا في العالم العربي حين يتحدثون عن هذه الأزمة . فعالم عربي تعداده يفوق المائة مليون نسمة لا يطبع فيه لكتاب او لشاعرمعروف اكثر من عشرة الآف نسخة وهذا في أحسن الأحوال إذن كيف سيكون بخير؟! وحين يقارن الأديب ا لعربي بينه وبين الوضع في العالم الغربي تزداد المشكلة حدة ومسؤؤلية ويرتفع التساؤل هل نحن شعب لا يعرف قيمة القراءة؟! او هل نحن أقل شأنا ككتاب وكمبدعين؟ أو هل نحن شعب يرفض الثقافة والتفكير؟! الإجابة عن ذلك طبعا هي العكس . فنحن شعب عريق له اصوله وجذوره وأصالته المعرفية الثقافية العلمية وهذه جميعها تضرب عميقا في رحم التاريخ، ولكن المسألة ليست كذلك. المشكلة تكمن اليوم في أسباب كثيرة متشعبة ذات تشظيات وتنويعات كثيرة تطال الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وليس هنا مجال الحديث عن مأساة العالم العربي ولا عما يعانيه الكاتب العربي. ولكن إذا كان العالم العربي يعاني من أزمة كهذه هل يجب أن تنسحب هذه الأزمة علينا أيضاً؟! خاصة ونحن نعيش في ظروف تختلف في الكثير عن العالم العربي.
v الواقع ليس بالضرورة أن يكون وضع الكتاب عندنا هو نفس وضعه في العالم العربي رغم التأثر الموجود وغير المنكر. ومرة أخرى نعود إلى نفس المساءلة التي طرحناها بهذف المحاولة للإجابة عنها. قلنا إن هناك فعلا أزمة قراءة محلية، ولكن ما الأسباب ألتي أدت إلى ذلك وما زالت تفعل فعلها؟! وكيف التغلّب عليها والارتفاع بهذا الموضوع المهم، بل الأهم إلى مصاف المجتمعات الراقية؟!
v قلنا إن جوانب متعددة لها علاقة بهذه الأزمة وكي نعرف علاج هذه المشكلة علينا أن نعاين الاسباب وأن نحددها وذلك من باب من عرف الداء هان عليه وصف الدواء. ونحن في غمرة الحديث وحماسته يجب علينا أن نحذر أنه ما من وصفة جاهزة من الممكن أن تنشلنا بين ليلة وضحاها من هذا المستنقع الآسن وما من دواء سريع يشفي من هذا الوضع السخيف، مهما بلغت دقة الوصفة وعلمية تركيب الدواء. وإنما ما نقوم به هو مجرّد محاولة هدفها التوصيف ومن ثم الاقتراب والملامسة، بل هي الى المغامرة أميل والى التجريب والمراهنة اقرب.
أبدأ أولا بمستوى الكتاب المحلي. والسؤال هو: هل يستطيع كتابنا المحلي أن يقف وأن يصمد اليوم امام ما ينشره في العالم العربي من حيث مستواه وإخراجه خاصة إذا كان الكتاب العربي عامة هو بذاته يعاني نفس الأزمة أيضاً؟ حقيقة إنها قضية ليست سهلة ومقارنة مع ما ينشر اليوم في العالم العربي إضافة الى سهولة الوصول إلى ما ينشر أيضاً يصبح كتابنا في أزمة، ونحن إذا تفحّصنا الأمر بدقة نجد أن الكتاب العربي ما زال يحتل مكان الصدارة في عالمنا الثقافي المعرفي وذلك له مرجعيته وهو نابع عندي من جملة أمور تحتاج الى الوقوقف عندها بأناة وصبر.
أمور تخترق مسيرة أدبنا منذ بدايته أو استمراريته بعد القطيعة وحتى اليوم.
v أهم هذه الأمور من الناحية التاريخية هي أن أدبنا العربي المحلي مهما كانت له خصوصيات هو جزء لا يتجزأ من الأدب العربي عامة، فأدبنا ليس نبتا شيطانيا منقطعا عن جذوره بل هو رافد من روافد عديدة تشكل هذا النهر الكبير الهادر الذي هو ثقافتنا العربية ولأنه كذلك فهو مؤثث بالكثير من المواضيع والبنى والاشكال التي استمدها من هذا الكم الضخم بحيث نجد أن الكثير- رغم فرادة التجربة- يدور على نفس الثيمات والمحاور. وإذا أضفنا أننا هنا خاصة جيل ما قبل عام (1948) وجيل ما بعده بقليل، تربّى على هذا الأدب العربي دراسة ومطالعة حتى صار هذا الجيل يحمل الأفكار ذاتها ويستمتع بقراءة أسماء معينة، درج على قلمها وأسلوبها المتميز في المجلات والكتب في حينه، نصل إلى نتيجة تقول إنه بات من الصعب أن يغير هذا الجيل اتجاهه وأن ينزاح عما ألفه ليعتاد اسلوبا آخر، هو رغم اقترابه من همومه اليومية كان لا يزال يجرب نفسه على مدراج الادب الراسخ لغة واسلوبا. اضف الى ذلك شحّ هذا الإنتاج المحلي في حينه بسبب ضغط السلطة ومحاولتها إضعاف الصلة وتغييبها بينه وبين ما كان ينشر في العالم العربي. فجيل درج على قراءة ادب معين لا قراءة هاوية انما قراءة ملزمة نابعة عن ضرورة مناهج التعليم التي غاب عنها الانتاج المحلي على ندرته ونضارته غيابا مقصودا متعمدا كان من الصعب عليه ان يتقبل ادبنا المحلي الذي كان يتلمس خطواته ويشق طريقه بعناء في عتمة ليل حالك في ظروف قاسية. ثم كان من الصعب على هذا الجيل أن يقتنع بأن الكتاب المحلي يصل الى مستوى الكتاب العربي الاخر خاصة وانه يرى الى ما في هذا الكتاب من تقليد، ولذلك اعرض عنه وإن قرأه نفر قليل كانت قراءته من باب التشجيع ليس إلا. تنضاف الى ذلك المشكلتان النفسية والانتمائية الحساسة اللتان لعبتا الدور الكبير في حينه في تحديد شهرة هذا الكتاب او ذاك. فنظرا للظروف التي عشناها كان النظر الى قيمة هذا الكتاب المحلي تحدد على ضوء انتماء صاحبه الطائفي/ الاجتماعي/ والاهم الحزبي. وكان الفرز في حينه صارما قاسيا. فحتى الكتّاب الذين وقفوا على الشاطئ اسقط ادبهم من الحساب رغم ما كان فيه من جمالية لأن الظروف اقتضت شيئا آخر. فهذه الظروف اقتضت ادبا ملتزما مسيسا مؤدلجا يميل الى المنبرية والخطابية
والمباشرة- أدبا يقارب الحدث الساخن ويمتح منه. وأدب كهذا مهما نظرنا اليه بمنظار الحب والتشجيع هو أدب آنّي وفي معظمه أدب هشّ كان من الصعب له أن يقف ويشمخ متحدّيا ما ينشر في العالم العربي على الصعيدين الأدبي والفكري وذلك لأنه على مباشرته كان سريع الانزلاق نحو السطحية والكليشيه الجاهز المنفّر طبعاً إلا أقلّه كي يرسخ كان عليه أن يعرف كيف يغوص في المقلاة وكيف يتعمّد في جرن التجربة وكيف بالتالي ينتشل نفسه وأدبيته من لعنة المباشرة والسطحية. وفعلا إذا عدنا الى البدايات في الخمسينيات والستينات نجد أن عددا قليلا جدا من الأسماء حافظت او استطاعت أن تحافظ على نفسها وأن تخترق الحواجز وان ترسخ في ذهن الجماهير القارئة بينما الكثير سقط مع بداية المشوار أو في وسطه. وشيء آخر نضيفه الى هذه الخانة وهو قضية كون المبدع "ابن بلد" فهل ابن البلد الذي نعرفه عن كثب اجتماعيا وأخلاقيا يستطيع أن يكتب وبنفس المستوى ما يكتبه كاتب سوري/ لبناني/مصري؟.! إنه نوع من الدفاع عن الذات. فكون القارئ المحلي مقصِّراً لا يجيد التعبير عن ذاته أسقط هذا التعبير أيضا على جاره أو على ابن بلده أو على معرفته. وهذه ظاهرة ما زلنا نعاني منها الى اليوم. وذلك لأننا لم نعرف كيف نتخلص من عقدة أن الغريب دائما هو الأفضل. زد على ذلك علاقة المبدعين ببعضهم التي تقوم على التنافس والتناحر والتنافر حتى نكاد ألاّ نعثر على مبدع يحبّ مبدعا آخر أو يشجع انتاجه ولو كان بينه وبين نفسه يعترف بقيمته.
وبعد هل نستطيع أن نقول إن الكتاب المحلي في حينه أي بالنسبة الى جيل ما قبل (1948) أو جيل ما بعده كان باستطاعته أن ينافس الكتاب العربي عموما؟! أو أن يقف على نفس المستوى؟! ربما كان بإمكانه ذلك لو لقي الترحاب والتشجيع الكافيين، وهنا تحتّم الموضوعية أن أشيد بدور مجلة "الجديد" وصحيفة "الاتحاد" ومجلة "الغد" في تشجيع مثل هذه الكتب فقد عملت وبكثير من التجاوزات على تقديم هذا الوليد الغضّ في أحلك الفترات. ولكن رغم هذا الدور الذي لعبته في حينه ظلّ طغيان الكتاب العربي على قلة وصوله الى القارئ يلعب الدور الاساس والمركزي في حياتنا الادبية والفكرية. فلم يكن بوسع كتابنا المحلي منافسته، هذا عدا أن عددا كبيرا من الكتب التي صدرت في حينه لم تصل الى المستوى اللائق والمطلوب. وأنا اذكرفي بداية الستينات تلك الكتب التي تلقفناها كالخبز والتي صدرت عن دار النشر العربي بشكل مقصود والتي كادت أن تقضي على الانتاج المحلي وذلك لأننا كنا نقارن هذا الانتاج بانتا جنا مغفلين كون كتاب هذه الكتب هم أصحاب شهرة عالمية واسعة بينما كتابنا كانوا بعد أغصان غضة على شجرة الابداع.ا قصد كتب طه حسين ومحفوظ وتيمور والشرقاوي وغيرهم. وبحكم العلاقة الحميمة التي جمعت بين الحزب الشيوعي الاسرائيلي في حينه مع الاتحاد السوفييتي ثم نقل العديد من امهات الكتب السوفييتيه الينا تلك الكتب التي غمرت السوق لأنها تجاوبت مع ظروف المرحلة السياسية في حينه والتي شكلت نموذجا لكتابنا هنا، أعني كتب تشيخوف وتولستوي وغوركي ودويستوفسكي وغيرهم الكثير، وهي كتب ذات رؤى تقدمية ثورية وأبعاد اجتماعية وسياسية رائعة. هذا عدا ما قدمته الجامعات لطلابها من كتب مترجمة. فمع تغيّب الكتاب الفلسطيني ومع هذا المد من الكتب العربية والسوفييتية المترجمة التي تربى عليها الجيل الذي نتحدث عنه والمواد التي درسها في كتبه التعليمية ومناهجه والتي شكّلت بالنسبة اليه المثال أضحى الكتاب المحلي على قلته وندرته ورغم فرادة تجربته وخصوصيتها كتابا ضئيلا لا يرتفع الى المستوى المطلوب كما أضحى عاجزا عن منافسة هذه الكتب والروائع بطبيعة الحال. وبعد! هل هناك أزمة قراءة؟ في حينه نعم كانت هناك أزمة قراءة للانتاج المحلي تنبع كما بيّنا من عدم صمود هذا الانتاج المحلي أمام الكتب الأخرى من حيث المستوى ولكن هل ما زالت هذه الأزمة مستمرة رغم التطوّر الذي حدث؟
المتتبع للحركة الادبية المحلية يلحظ ان نشوة ما اصابت الادب المحلي مع بداية الستينات وأواسطها، سببها الظروف السياسية، ففي حينه، نشأت اقلام جادة شابة واعدة راحت تثبت اسماءها على صفحات المجلات والصحف المحلية في الشعر والنثر والنقد والفكر. وكان لصحف الحزب الشيوعي دور كبير في ابراز هذه الاسماء، كما كان دور اخر لصحيفة "اليوم" ومن ثم "الانباء" و "حقيقة الامر" و "الفجر" و "المرصاد" في فتح صفحات ادبية لاقلام محلية شابة كثيرة. بعض هذه الاسماء نال شهرة محلية كبيرة وقد تم نقل انتاج هذا البعض الى العالمين العربي والغربي، وذلك لان الادب المحلي بدأ يلقى اهتماما كبيرا في تلك الفترة. وبسبب التعاطف مع القضية المحلية فلسطينيا وعربيا احترم العالم العربي معظم ما كان ينشر عندنا في حينه، بل كتبت حوله بعض الاقلام المقالات النقدية الاستعراضية التعريفية، وقد رصد نفر على قلته ادبنا المحلي وعاينه ودرسه ونشر كتبا عنه. ولكن بالرغم من هذا الانتشار الواسع والشهرة تحتم علينا الموضوعية ان نقول: ان التقريظ الكبير الذي ناله ادبنا في الخارج لم يكن نابعا عن موضوعية علمية بقدر ما كان نابعا عن حب وتعاطف ودهشة، وقد عبر عن ذلك في حينه شاعرنا الكبير محمود درويش حين اطلق جملته المشهورة "انقذونا من هذا الحب القاسي".
وهكذا ومن هنا نعود الى المساءلة التي كنا قد طرحناها في البداية، هل مستوى الكتاب العربي المحلي تحسن في هذه الفترة ام ظل يلهث وراء الكتاب العربي عموما؟
وللحقيقة اقول: ان المستوى تحسن وتكمن وراء ذلك عوامل كثيرة، ليس هنا المجال لذكرها كلها. حين اقول المستوى تحسن اعني ان المواضيع بدأت تشوق القارئ بعد أن كانت حيية منفرة احيانا والاسلوب ارتقى وارتفع الى مستوى لا بأس به، ولكن هذا كله كان عند البعض القليل وليس عند الاغلب، فالاغلبية في حينه غرقت في التقليد والجري وراء الكتاب العربي دون طائل، الامر الذي أدى فيما بعد الى توقف هؤلاء عن الكتابة.
الكتاب المحلي إذن آخذ في الارتفاع مضمونا وشكلا، وعلى قلة ما كان ينشر من كتب في حينه أقبل الناس على قراءته، وقد ساهمت الندوات والمهرجانات التي أقيمت لهذا الادب في الستينات في الدعاية والترويج له خاصة مهرجانات كفرياسيف والناصرة. وهكذا راح الانتاج المحلي يلعب دورا رياديا لدى الجماهير العربية في اسرائيل، الأمر الذي رفع من كرامة الكاتب وحفزه الى المزيد من العطاء والتقدم والتجريب. ولكن هذا الادب رغم ثباته وبعد تجربته السياسية دخل تجربة مرة خاصة بعد نكسة حزيران (1967)، وذلك بسبب الانفتاح الكبير الذي حصل عندنا على العالم العربي، وأعني ذلك التهافت "المبارك" من قبل المتعلمين والمثقفين في حينه على الكتب العربية الوافدة من مصر وسوريا ولبنان والمغرب العربي، تلك الكتب التي كنا محرومين منها مدة طويلة الزمن، ومن خلال هذه الكتب عاد المدّ العربي الفكري والادبي يلعب دوره السابق في زيادة القراءة عندنا، إذ بعد قطيعة دامت عشرين عاما تقريبا مع كل ما كان ينشر في العالم العربي ومع تغييب متعمد للفكر والادب العربيين، عاد هذا الادب ليحتل مكان الصدارة وكان على الأدب المحلي العربي أن يجاهد كثيرا كي يصل بادبه الى مستوى الكتاب العربي الذي أصبح متيسرا، وفعلا بدأنا نشهد في اواخر الستينات منافسة كبيرة بين ما كان ينشر عندنا وما كان ينشر هناك، ولّدت هذه المنافسة في البداية رهبة لدى كتّابنا، ولكنها رهبة سرعان ما بدأت تقشع فانطلق كتابنا بعدها يمتحون من هذا المناخ الفكري والأدبي الجديد والخصب، فأثرى هذا الانفتاح ادبهم وعالمهم الفكري وأغناه واخصبه ورفع مستواه. وصارت تكاليف نشر الكتب أقل من السابق وعملية التوزيع اسهل، وفتحت آفاقا كثيرة ومجالات متنوعة لانتشار القلم المحلي، ووصلت كتاباتنا الى العالم العربي عبر الضفة والقطاع. وفعلا شهدت سنوات السبعين هبة ادبية وفكرية محمودة، وتحسنا في الانتاج ملحوظا، وقد تنبه الى ذلك عدد من الادباء والمثقفين فاقاموا دور نشر كرّست جلّ همها لنشر الادب والفكر المحليين كمكتبة صلاح الدين في القدس وكدار عربسك في حيفا وكالاسوار في عكا. ودفعت هذه المكاتب بالكتاب المحلي الى امام فازداد القراء وازداد الطلب. وهكذا نجد ان عام (1965) وما تلاه ولد في البداية رهبة كادت تكون مانعا لدى الكاتب المحلي لأنه تهيّب المنافسة في البداية ولكنه بعد ذلك صار خطوة مباركة للادب المحلي حيث انطلق ادباؤنا مستفيدين من العالم العربي ومحسّنين ادواتهم ليصمدوا امامه. ومرة اخرى انوّه بأن هذا الكلام لا ينطبق على جميع الكتاب عندنا بل على بعضهم، أي على هؤلاء الذين تحدوا وقبلوا المنافسة فصمدوا لها وانطلقوا من الضيق الى الرحابة والشمولية. وهكذا تحسّنت ايضا النظرة الى ادبنا فصارت نظرة موضوعية وصار المعيار إما أن يصمد او لا يصمد هذا الادب أمام التحديات الكبيرة وقد صمد العديد من كتبنا المحلية. وكذلك لاقت هذه الكتب الاهتمام والشهرة بحيث أعيد طبعها مرات في العالم العربي وترجم بعضها الى اللغات الاوروبية.
ومما زاد في شهرة الكتاب المحلي وإقبال الناس على قراءته محليا أمران هامان: الأول- ارتفاع نسبة المثقفين وانتشار الوعي والاهتمام بكل ما هو محلي اصيل تبعا لذلك. والثاني- إن هذه الكتب والمنشورات المحلية كانت هي فارسة الميدان الوحيدة في حينه لأن وسائل الاعلام المحلية – المنافس الكبير- لم تكن قد دخلت الساحة بعد، وذلك لأن معظم قرانا كانت محرومة من كل مظاهر التمدن حتى اواسط السبعينات تقريبا وهكذا اذا لم يكن للكتاب المحلي ما ينافسه ويشل حركته وإنتشاره وقراءته لسنوات سوى الكتاب العربي وحتى هذا لم يعد ذلك المنافس الخطير كما كان من قبل وقد أسلفنا ذلك.
مما تقدم نصل الى نتيجة تقول: إن ما كان يعانيه الكتاب المحلي من حيث مستواه وإعراض القارئ عنه في الخمسينات قد زال وتراجع في السبعينات لا بل حصل هذا الكتاب على إقبال الناس وتحمسّهم له وهكذا يزول مع هذا الاقبال على القراءة العائق الأول من العوائق التي لعبت دورا مهما في قضية القراءة.
والسؤال الذي يرتفع الآن، وهل بزوال قضية مستوى الكتاب المحلي زالت أزمة القراءة محليا؟
حقيقة نقول: لا ، بل بالعكس، فبعد الهبة المحمودة التي شهدتها سنوات السبعين أخذت القراءة تدريجيا خاصة القراءة المحلية ومع بداية الثمانينات ووصولا الى التسعينات بدأت الأزمة تتفاقم حتى صارت اليوم الشغل الشاغل للأدباء، وذلك يعود الى أسباب كثيرة سنحاول الوقوف عندها حسب أهميتها.
أول عامل من الممكن أن نشير اليه في غمار هذه المساءلة والذي لعب دورا في تهميش عملية القراءة هي وسائل الاعلام المرئية. من المعروف أن قرانا العربية قد أخذت تتمكنن بعد اواسط السبعينات تقريبا، وهذه المكننة سمحت بطبيعة الحال بدخول وسائل الاعلام المرئية الى كل بيت، وككل شيء جديد ومدهش انجذب الناس الى هذه الوسائل انجذابا مذهلا حيث سيطرت على الاغلب الاعم منا ببرامجها الخفيفة المتنوعة الترفيهية الثقافية والسياسية وغيرها. ومع تطور الحياة تطورت هذه الوسائل اكثر فأكثر، فدخل الى جانبها "الفيديو" الذي استحوذ هو الاخر على جزء كبير من اهتمام الناس ثم تلته محطات "الكوابل" الكثيرة التي راحت تتنافس على جذب المشاهد فيما بينها. كل ذلك كان على حساب القراءة وذلك لأن وقت الفراغ لدى القارئ راح يتضاءل تدريجيا ويدخل اليه منافسون ألداء للكتاب، لا بل لم يعد هناك وقت للقراءة وذلك لأنها تتطلب جهدا فكريا وكدا ذهنيا على خلاف البرامج المتلفزة او المسجلة التي يستطيع المشاهد رؤيتها وهو مرتاح. أضف الى ذلك أن الوسائل التكنولوجية الأخرى دخلت الميدان ايضا للتنافس على البقية الباقية من وقت الفراغ، وأهم هذه الوسائل كان الحاسوب الذي بدأ الوعي به في السنوات القليلة الماضية، والذي صار يحتلّ اليوم مكان الصدارة لدى الجيل الشاب وذلك لأنه يوفّر لهم المعلومات بسهولة وبتكاليف قليلة. وهكذا نجد أنه رغم تزايد عدد المتعلمين الأمر الذي كان من المفروض أن يؤدي الى تزايد مطّرد للقراءة وجدنا العكس تماما. فقد دخلت القراءة منافسة شديدة مع هذه الوسائل وكانت هي الخاسرة لانها لا تملك الجذب المريح الذي تملكه تلك الوسائل. صحيح أن هذه الازمة ليست أزمة محلية إنما هي أزمة عالمية، ولكنها هنا لعبت دورا شرسا في إبعاد القارئ عن الكتاب والهائه ببرامج قللت من وقت فراغه بحيث نكاد اليوم لا نجد إلا قلة قليلة من الذين يواصلون القراءة وذلك لوعيهم باهميتها وفوائدها. وقد قلت هنا وأعني لدينا لأن المنافسة عندنا جديدة لما يصل عمرها الى عقد ونصف تقريبا لذلك هي لم تفقد لغاية الان بريقها لدى الناس والقراء خاصة الذين بدأت قراءتهم تتناقص هذه الايام حتى صارت تقتصر على قراءة الصحيفة المحلية وربما على عناوينها فقط.
إذن التنافس الشديد بين القراءة ووسائل الاعلام المرئية بكل تشعباتها، والتكنولوجيا بكل امكانياتها، هذا التنافس لم يكن في صالح القراءة، وربما مع ازدياد الوعي والتجارب سيأتي ذلك اليوم الذي سيجد فيه الانسان العربي أن القراءة هي الأهم. ومثلما وصل الانسان الغربي الى هذه الحقيقة نأمل أن نصل نحن اليها قريبا.
إذن القراءة في أزمة لا بل في أزمة شديدة اليوم طالما انها لم تستطع لغاية الان التغلب على اشد منافسيها ضراوة، ولكن هل الأزمة محصورة بوسائل الاعلام المرئية والتكنولوجيا الحديثة فقط؟! أم ان هناك أسبابا أخرى لها؟!
حين تطرح قضية أزمة القراءة عندنا على شبابنا المتعلم والمثقف، يأتي الجواب بتلقائية وهل هناك وقت للقراءة؟! هذه الاجابة التلقائية بقدر ما فيها الكثير من الصدق بقدر ما فيها ايضا الكثير من التهرب. صدقها نابع من كون هؤلاء الشباب فعلا لا يملكون الوقت الكافي لقراءة اخرى غير قراءاتهم المتخصصة، فهم يعيشون اليوم- كل في مجال عمله وتخصصه- في عصر متقلب علميا، سريع الخطى في تنقله بين الحقائق العلمية على اختلافها وذلك نابع من التطور التكنلوجي والامكانيات الكثيرة المتاحة اليوم للبحث والتجارب، هذا التقلب او لنقل هذا التقدم السريع اصبح لا يسمح لهذا المتخصص ان يقرأ شيئا خارجا عن مجال عمله وحتى الكتب او المجلات المتخصصة على كثرتها لم يعد باستطاعته مواكبتها جميعا، فلكل موضوع أدبياته وهذه الادبيات كثيرة ومتشعبة في آن معا بحيث لا تتيح الفرصة لهذا المتعلم ان يمد نظره الى غيرها او ان يقرأ ويتابع ما ينشر في المجلات الاخرى خاصة الادبية. زد على ذلك ان هذا التقدم العلمي الذي حصر شبابنا المتعلم في خانة التخصصات راح يضيق عليهم المجال اكثر فأكثر حتى صار للتخصص تخصص أضيق وأضيق، وهكذا حتى أصبحنا اليوم نجد قطيعة بين المتعلمين وبين ما ينشر لدرجة ان الواحد منهم صار يصاب بالدهشة وبالذهول حين يسمع ان جاره أديب او مفكر له شأنه، يقرأه الكثيرون في العالم العربي، أو أن أدبه أو انتاجه الفكري صار يدرّس وتكتب عنه الدراسات والأبحاث. وبسبب هذا التقصير غير المتعمد صار هذا المتعلم المتخصص حين نضعه وجها لوجه امام هذه القضية- وهي قضية على جانب كبير من الاهمية لما فيها من خصائص وطنية وقومية- يدافع عن نفسه بشتى الحجج، وطبعا اسهل هذه الحجج الادعاء بأن ما يكتب عندنا لا يستحق القراءة، فهو هزيل فارغ مقارنة مع ما يكتب في الغرب، واذا تفحصنا الأمر جيدا نجد أنه لا يقرأ ما عندنا ولا ما عند الغير حتى تجوز له مثل هذه المقارنة، وكل ما في الأمر أنه يسقط تقصيره على الغير بدلا من التأشير على العيب بجرأة وعلاجه.
هذا بالاضافة الى ان الابتعاد عما ينشر محليا وعربيا جعل البعض محصورا في نطاق الادب الذي درسه اثناء مراحل تعلمه المختلفة، الامر الذي جعله بالتالي لعدم مواكبته للمستجدات لا يستسيغ ما يكتب اليوم لانه شتان بين ما كتب في الامس وما يكتب اليوم. فالأدب كما يعرف الجميع كائن حي يتطور وينمو مع تطور المجتمعات. هذا التطور الادبي/ الفكري غير المواكب جعل الكثير يغلقون الباب على ما يعرفون ويكتفون به بحجة انهم لا يفهمون ما يكتب حديثا، فهم يريدون من الشعراء والكتاب ان يظلوا أسرى القديم، ان يظلوا يدورون في اقفاص مسيجة، اسرى الخطابية والمباشرة والشعاراتية الجعجاعة التي اعتادوا عليها في مرحلة معينة من مراحل ادبنا العربي عامة والمحلي خاصة، ويغضون النظر عن أن الادب اليوم صار من المفروض عليه ان يخلع أثوابه القديمة ليكتسي بثوب جديد هو ثوب الحداثية المتطورة المستمدة من التطور الفكري والادبي العام في الغرب وعندنا.
وقضية اخرى تنبع من خاصرة هذه القضية الخاصة وتهمنا كثيرا في هذه المساءلة وتحتم علينا لأهميتها أن نقف إزاءها قليلا لنفحصها وهي: هل حقيقة هو الادعاء القائل ان ما ينشر اليوم عندنا لم يعد يجذب القارئ ويغريه كما كان الأمر سابقا؟! بمعنى هل حقيقة ان ما ينشر قد ابتعد عما يهم القارئ ويشوقه؟! تستمد هذه الاسئلة شرعيتها من كون أدبنا المحلي على مدار رحلته كان دائما ملتصقا بالقضايا الساخنة اللاهبة التي كانت تحتل المركز الاول لدى القارئ فتثيره وتجعله يتحمس لهذا الادب لأنه كان يرى فيه عاكسا لهمومه وتطلعاته وآماله. اما اليوم فهو يرى الى أن الأدب قد خان الرسالة وابتعد عن هذه القضايا. هذا الادعاء الذي يرفعه بعض القراء على جانب كبير من الخطأ، وذلك لأن أدبنا ما زال يناور على نفس المحاور وما زال مجاله الانطولوجي مقلصا، ولكن الذي حدث هو أن هذا الأدب قد رفع من مستواه وصار يوظف الكثير من الوسائل الفنية التي تجعله يلامس القضية تلميحا لا تصريحا، ترميزا لا مباشرة وهذا الأمر بقدر ما فيه من حق وصدق لأن الأدب أي أدب مفروض عليه ان يتطور- وهو أمر فني بحت-، بقدر ما جعل القارئ يقف أمام أدب لم يألفه ولم يعتد عليه في السابق، لذا صار اذا سئل عن هذا الأدب يجيب انه أدب مبهم/ مستغلق/ غير مفهوم، ويروح يستشهد بقصائد محمود درويش الستينية مثلا ويقارنها مع قصائده اليوم فكانه يأبى على محمود درويش وعلى غيره التطور الفني ويريد له التقوقع والانتصار لنفس النموذج. من هنا إذن صارت القطيعة عندهم مع ادبنا وكأننا نعود الى نفس مساءلة "أبي تمام" الخالدة. وهكذا وبسبب ما ذكر أهمل هؤلاء القراءة وخسروا بذلك الجانب الانساني الهام في حياتهم، لا بل الأهم.
وقضية يجب ان نقف عندها والتي تساهم هي الاخرى في الابتعاد عن أدبنا المحلي هي قضية وصول الكتاب الى القارئ، وبسبب صعوبة وصول المؤلف الى كل بيت، ينحصر هذا الكتاب بين قلة قليلة من القراء، الأمر الذي يضر المؤلف والقارئ معا. وعدا الامرين السابقين تظل قضية في غاية الاهمية لم نتطرق اليها لغاية الان وهي قضية وزارة المعارف وما يتعلق بها من امر مناهج التدريس وأهداف التعليم وما الى ذلك.
وبداية اقول انني لا ابغى هنا التجني بل سأحاول أن أكون موضوعيا في رأيي إن الهدف الذي يجب على وزارة المعارف ان تضعه اليوم نصب أعينها اذا أرادت فعلا أن تطور التعليم العربي هو الارتفاع بالانسان الى انسان قارئ/ باحث مستقل، وعندي أن مهمة التعليم لم تعد كما السابق مهمة تلقينية، بل عليها أن تصبح مهمة ترى وتسعى الى خلق جيل مستقل مثقف يتعلم الأدوات ويطورها ليجيد استعمالها فيما بعد. مهمة التعليم صارت إذن بناء إنسان مثقف قارئ يفتش بنفسه عما يريد. من هنا يتوجّب على الوزارة تغيير طرائق التدريس المعمول بها، وتغيير المناهج كي تتلاءم جميعها مع هذا الهدف. فهل هذا هو الحاصل؟ الحقيقة تشي بالعكس. صحيح أن الوزارة أغرقت الوسط العربي بساعات التعليم ولكنها ساعات لم تخطط لها بالمرة وكانت بذلك اشبه بالذي يربط العربة امام الحصان، كان على الوزارة ان تهيئ المعلم قبل الساعات وأن تسعى الى تحديث المناهج ايضا. ولكن مع مناهج غثة ومع تقليص عدد ساعات تعليم اللغة العربية ومع نصوص ادبية مكرورة يرتفع السؤال الكبير، هل يمكن بهذه الامكانيات أن نؤصل عادة القراءة وأن نحببها لطلابنا؟! هل يمكن للنصوص الموجودة ان تقرب الطالب اليها؟ وهل هي تعكس بصدق ادبنا؟ إن نظرة سريعة الى كل ذلك تشي بأن معظمها بعيد عن عالم القارئ وعن اهتماماته، لذلك نراه يتعامل معها كمادة جافة دون الانجذاب اليها. وطالب/ قارئ لا ينجذب الى نص معين يشكل نموذجا لقضية اخرى تعتبر جانرا ادبيا مهما كيف له ان يرغب القراءة وان يتابعها. كيف له أن يحب ادبنا/ أدبه وان يعشقه. واذا راقبنا مدارسنا وتفحصناها وسألنا المسؤولين كم من الوقت يكرّس للمطالعة الذاتية الحرة أو الموجّهة. الجواب: النزر اليسير وذلك بسبب ضغط المواد الاخرى كما يدعّون. ومع العلم أن الوزارة تنادي وتفخر بموضوع الوعي القرائي والابداع فمتى سيستمر هذا المشروع ومتى فعلا سنصبح شعبا قارئا لا ما قتا للكتاب؟! مسؤولية كبيرة تقع على الوزارة إذ عليها أن تبحث كي تجد الطريق الصحيح الذي عن طريقه من الممكن أن نزرع حب القراءة ونجذّره فنحن لا نريد جيلا تاجرا للعلامات بل نريد جيلا مثقفا يقرأ ليعرف ويعرف ليتطور. واذا أردنا التطرق الى النصوص المحلية الموجودة في مناهج التدريس اليوم نجد أن المشكلة أو الأزمة تتفاقم إذ أن هذه النصوص على قلتها لا تعكس حقيقة ادبنا المحلي ولا تحبب طلابنا به . حتى هذه النصوص المنتقاة لبعض الاسماء المحترمة لا تعكس أدبهم ولا تمّثل مراحل تطوّره.
والقضايا النابعة عن مسؤولية وزارة المعارف ، والتي لها علاقة بأزمة القراءة كثيرة نكتفي منها بما اوردناه ونعرض عن الاخرى وذلك لضيق المجال.
إذا التخصصات المحصورة بأدبياتها وعدم مواكبة المستجدات على الساحة الأدبية/ الفكرية، وعدم وصول الكتاب الى القارئ ومناهج التعليم وساعاته كلها مسائل ساهمت في وجود أزمة قراءة، كما ساهمت في ابتعاد القارئ عما يكتب عندنا. ولكن هل بهذا الأمر تصل المشكلة الى حدّها النهائي؟!
لا اعتقد ذلك، إذ هناك بعد الكثير ختاما للحديث تظل أمامنا قضية واحدة لم نتطرق اليها رغم اهميتها، وهي قضية دائرة الثقافة ودورها في نشر الكتاب المحلي.
نحن نثمّن دور هذه الدائرة في هذا المجال، وذلك لأنها تسعى جاهدة الى نشر الكتاب المحلي. وللحقيقة الموضوعية أقول: إن عددا كبيرا من الكتب المحلية ما كان باستطاعته أن يرى النور لولا الدعم الذي تقدّمه الدائرة. ولكن بالرغم من هذا الدور الجميل والقيّم، تظل هناك مشكلة يجب ان نتعامل معها بمنتهى الجدية، هذه المشكله هي مشكلة نشر الادب الغث واختلاطه بالادب السمين. إذ مع غياب حركة نقدية تغربل ما ينشر بحيث تؤشر على الجيد وتشجعه، وتشير الى الرديء وتحذّر منه، ومع غياب لجنة متخصصة تفحص هذا الادب قبل نشره وتنتقي منه الملائم، تظهر على الساحة الأدبية كتب دون المستوى شعرا ونثرا، الأمر الذي يجعل القارئ ينفر منها كما ويجعله يسحب نظرة سلبية على كل ما ينشر عندنا، وهذا طبعا ليس منصفا، إذ هناك كتب محلية كثيرة تستحق القراءة فهي تضاهي بمستواها مستوى الكتب العربية الأخرى وربما تفوقها. من هنا أرى الى ان تعتني هذه الدائرة – في المستقبل اكثر بنوعية ما ينشر، إذ ليس الكمّ هو الذي يقرر بقدر ما هو الكيف.
ثم قضية الميزانية المخصصة لنشر الكتاب المحلي هي ميزانية إذا قارناها مع الوسط اليهودي تبدو ضئيلة.بعد هذه الوقفة التي طالت نعود الى مساءلتنا الاساسية التي بدأنا بها والتي فتقت كل هذا الحديث. هل هناك فعلا أزمة قراءة محلية؟ الاجابة عن ذلك نعم، رغم ما فيها من حرقة ولعل الاسباب التي ذكرتها- وهي كثيرة- تؤكد على ذلك، بدءا بمستوى الكتاب وأزمة توزيعه وانتقالا الى منافسة وسائل الاعلام خاصة المرئية منها، ومرورا الى القطيعة التي حدثت بسبب التخصصات ومناهج التدريس وطرقه وانتهاء باختلاط الغث بالسمين. كل هذه الامور مجتمعة ادت الى خلق الازمة وساهمت في تعميقها، ونحن إذا نظرنا بجدية الى هذه الأزمة نجد كم هي خطيرة تهدد حياتنا الثقافية والحضارية ومستقبلنا العلمي والفكري. ولكونها بمثل هذه الخطورة علينا- إذا أردنا التطور- أن نتجند جميعا وبسرعة لتطويقها ومحاصرتها قبل تفاقمها كما علينا ان نسعى جاهدين التى التغلب عليها خاصة ونحن مقبلون على فترة انفتاح على العالم العربي الكبير والواسع. ويظل السؤال كيف؟ بمعنى كيف يمكن لنا أن نطوق الأزمة ونتغلب عليها؟ بداية اقول انا لا املك وصفة جاهزة نستطيع بواسطتها أن نبحث المشكلة بين ليلة وضحاها، ولكنني رغم ذلك سأحاول طرح بعض الاقتراحات التي في رأيي تساهم في التغلب عليها وهذه الاقتراحات قابلة حتما للنقاش ا وللزيادة والحذف ثانيا.
بداية اقول: إنه بقدر ما في هذه الأزمة من خطورة بقدر ما يجب أن يكون العمل على اجثتاتها جادا، ولكن هناك أسباب تتعلق بنا كشعب ومن ثم كأدباء نستطيع السيطرة عليها، وهناك اشياء تتعلق بالمؤسسة خارجة عن نطاقنا، ولنبدأ بالأسباب المتعلقة بنا.
اولا، علينا، إذ أردنا التغلب على هذه المشكلة أن نحترم لغتنا وتراثنا وادبنا، وأن ننظر الى ذلك كواجب وطني من الدرجة الأولى، ولكن مقارنة بسيطة مع الشعوب الأخرى تشي بأننا لا نفعل ذلك. بما فيه الكفاية، بل دائما نرانا نهزأ بأدبنا وبأدبائنا ونحاول جلد أنفسنا وإسقاط مشاكلنا على هذا الأدب، وبنظرة طائرة الى الوراء قليلا نجد أننا وعلى مر العصور امتلكنا تراثا ضخما نفاخر به الدنيا، وما زلنا نمتلك اليوم ادبا راقيا يفوق بتقنياته وأساليبه وفنيته ومضامينه الكثير من الآداب إذا لماذا هذ النظرة السلبية اليه؟ بالاضافة الى ذلك فإن أدبنا المحلي هنا هو هويتنا الحضارية والثقافية الذي لولاه لكنا اليوم نعيش على هامش الحضارات والثقافات الاخرى. ومن هنا علينا ان نحترم هذا الادب وان نقدم له الدعم وان ننظر اليه نظرة احترام وان نبذل قصارى جهدنا كي يكون مقروءا. وما ينطبق على الادب ينطبق على الادباء ايضا فهم مهندسو ارواحنا، وبقدر ما يقع عليهم من عبء ثقيل في حمل الراية، بقدر ما يجب علينا تثمين دورهم واحترام انتاجهم، فشعب لا يحترم ادبه وادباءه، شعب لا يستحق التطور اصلا.
وشيء آخر أود التأكيد عليه في هذه الوقفة وهو دور مؤسساتنا الوطنية المحلية، فعليهم تقع مسؤولية كبيرة في رفع شأن هذا الالدب وذلك بدعمهم المادي والمعنوي له. فأدبنا هو الشهادة الناصعة على صمودنا وتطورنا، من هنا فلو اعتنت كل سلطة محلية أو مؤسسة بأدبائها وشجّعتهم وفتحت لهم المجال ويسرت الطرق لراجت في مدننا وقرانا حركة أدبية/ فكرية نشطة تكون هي وحدها القادرة على الفرز والقادرة على خلق مناخ ملائم يحبب الناس بالقراءة والمتابعة ويجعل القراءة عادة متأصلة فينا. ينضاف الى ذلك الدور المناط بدور النشر المحلية عندنا فعليها هي الاخرى يقع دور كبير وذلك في توزيع الكتاب المحلي وإيصاله للقارئ. فمع حركة توزيع نشطة منظمة يدخل الكتاب الى كل بيت ويصبح عامل جذب للقراءة والمناقشة.
والشيء الرابع، الذي أرى الى أهميته هو دور البيت، فأمام الوالدين مهمة شاقة ولكنها ليست مستحيلة، عليهم تقع مسؤولية تنظيم الوقت لأولادهم منذ الصغر، عليهم ان يزرعوا ذلك فيهم مبكرا كأي عادة مكتسبة اخرى. لأنه إذا اعتاد الولد الصغير على وجود الكتاب في بيته واذا اعتاد القراءة واذا عرف أن لها وقتا معينا لا بل مقدسا من يومه نكون قد وصلنا الى الهدف وجذرنا المطالعة فيه وأصّلنا القراءة.
أما الأمور التي لا تتعلق بنا، فهي قضية وزارة المعارف والثقافة فهي المسؤولة اولا عن تحبيب الطالب بأدبه وبتراثه، ومع غياب هذا الدور أرى الى أن تكون هناك هبة شعبية بالوسائل المشروعة طبعا وعن طريق المؤسسات واللجان المختصة تطالب بتحديث المناهج والنصوص وبزيادة ساعات تعليم اللغة العربية في مدارسنا أسوة بالمدارس اليهودية، والمطالبة بتغيير طرائق التدريس التي باتت منفّرة للطالب، وبوضع أهداف أساسية ترمي الى خلق جيل قارئ، هذا بالاضافة الى تأهيل معلمين أكفاء لتدريس لغتنا وأدبنا، والى تكريس ساعات للمطالعة والابداع.
وبالتالي على هذه الوزارة أن تعترف بأدبنا وأن تجعله وحدة تدريسية إجبارية في مناهجها، وحدة مستقلة تقرّب طالبنا من أدبه ومن تراثه ومن لغته وتجعله يقبل على قراءة كل ذلك بنهم، تماما كما هو حاصل عند كل شعوب العالم. على وزارة الثقافة ان ترصد الميزانيات الملائمة.
وأخيرا إذا تم كل ما ذكرناه، وإذا تكاتفنا جميعا: أدباء وأهلا، ومؤسسات، ولجانا، ودور نشر، نستطيع ان نشكل وسيلة ضغط لإحداث التغيير الجوهري المطلوب، عندئذ نستطيع أن نرى الى مستقبل أجمل، الى مستقبل تكون عادة القراءة فيه متأصّلة أساسية، وعندها فقط نستطيع أن نقول: نحن شعب يسير بخطى ثابتة نحو الأفضل ونتطور إذ أننا نملك جيلا قارئا محبا للعلم، باحثا، يسعى الى رفع مستواه بما يكتنزه من معرفة وفكر من خلال قراءاته المتواصلة.
هل هي أمنية صعبة المنال؟ لا اعتقد، بل إن ما اعتقده هو اننا شعب قادر على ذلك، لا بل على اكثر من ذلك.
ملاحظة: نص المداخلة التي قدّمت في مؤتمر الحقوق الثقافية الذي نظمته جمعية مساوة.
* د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .