أزمة صحافتنا

من الإعلام الفكري إلى الإعلان التجاري

سيمون عيلوطي

لا أحد يقلل من أهيمة ودور الصحافة وتأثيرها على مجمل مسارات الحياة  السياسية والإقتصادية والإجتماعة التي تهم  كافة فئات المجتمع، وإذا أضفنا اعتبارها في بعض الدول المتقدمة بوصفها سلطة رابعة ، فإننا ندرك ما للصحافة من نفوذ لا يستهان به، وما للصحافيين من مكانة مرموقة وصلت حد الحصانة التي تمكنهم من الدخول إلى مختلف الميادين لنقل أخبارها ونقد ما يرونه انحرافا، وكلما كانت الصحافة مستقلة وذات مصداقية ومحايدة، كلما حظيت باحترام القراء وتهافتت عليها وكالات الأنباء معتمدة أخبارها وتقاريرها.

والصحف عادة يُقاس رواجها وانتشارها بمستوى ومصداقية الصحفيين العاملين فيها، وكذلك بجدِّّية أقلام كتَّاب مقالاتها، وعمق تحليلاتهم الإخبارية.

 حين أخذ المذياع ينافس الصحافة المقروءة بنشراته الإخبارية وتغطيته لمختلف الأحداث ميدانياً، وجدنا أن هذه المنافسة كانت في أغلب الأحيان تصب في مصلحة الوسيلتين الإخباريتين، وأن سرعة نقل الخبر المسموع بواسطة  المذياع والتغطية الإعلامية للأحداث، وأحياناً على الهواء مباشرة، كان يجذب المستمعين، ولكنه لم يؤثر على الصحافة المطبوعة، ولم يحد من إنتشارها ، إنما مكَّّّّّّّّّّنها بأن لا تكتفي بنقل الأحداث فحسب، بل تذهب إلى تحليل تلك الأحداث، الأمر الذي أكسبها دوراً صحافياً مشهوداً له، جعلها تقف إلى جانب الصحافة المسموعة وهي مطمئنة على وضعها الذي ما زال راسخاً في مجاله، ومتأصلأ في نفوس القراء.

عندما نشأت التلفزة بنشراتها الإخبارية المصورة، وبإعلامها الأخَّاذ، وجدنا أن الوسيلتين الإعلاميتين السابقتين طوَّّّرتا أداءهما الصحافي والإعلامي بحيث حافظتا على بقائهما ومتابعة الجمهور لهما. وهنا يمكننا أن نقول إن وسيلة إعلامية صحافية معينة، لا يمكنها أن تلغي وسيلة إعلامية صحافية أخرى، خاصة أن هذه الوسائل الإعلامية عرفت كيف تتأقلم مع نشوء وسيلة إعلامية أخرى، بحيث أصبح لكل واحدة منها طابع يميزها عن غيرها، مما ساعد على إعطاء الإعلام بوسائله المتعددة زخما عاد عليه وعلى المتلقي بالكثير من الفائدة. إلا أن ظهورالإعلام الألكتروني قلب هذه المعادلة راسأ على عقب، وأخذ يهدد وسائل الإعلام وخصوصأ الورقية منها، وكأنّه يحكم عليها باقتراب ساعتها.

 العديد من الإحصائيات تشير إلى تراجع الصحافة الورقية في ظل تنامي وانتشار الصحافة الألكترونية، وأرى أن هذه الزاوية المحددة من هذا الموضوع الشائك تستحق وقفة متعمَّّّّّقة قد أعود إليها يوماً، أو ربما يتناولها غيري ويشبعها بحثأ.

إذا نظرنا إلى واقع إعلامنا العربي المحلي الذي اقتصر بحكم خصوصية ظرفنا على الصحافة المقروءة، ولفترة طويلة جدا، نجد أن صحافتنا المطبوعة كانت تدور ما بين أروقة الصحافة الحكومية مثل جريدة اليوم، ومن بعدها الأنباء التي حافظت هي أيضاً على نهج سابقتها، وصحف أحزاب صهيونية أخرى مثل: "المرصاد" و"حقيقة الأمر"،والحقيقة أن هذه الصحافة لم تعبر عن همومنا وقضايانا، وظلَّت تدور بعيدا عما يُشغل جمهورنا، إلى حين صدور قرار رسمي بإغلاقها بعد أن أفلست إعلاميا . أقول: كانت صحافتنا  تدورما بين صحافة الأروقة الحكومية، وما بين صحيفة  "الإتحاد" التي كانت وما زالت المعبِّّّرالأمين عن قضايانا وهمومنا، وبرزت من خلالها أقلام صحفية جادة ومسؤولة تمكَّنت من طرح قضاينا ومعالجة همومنا، واستطاعت أن تجنِّد من حولها عدداً من الكتاب الذين  سخَّّّّّّّّّّروا أقلامهم لمصلحة شعبهم، ولم تُثنِهم عن ذلك الملاحقات المخابراتية  التي بلغت في كثير من الأحيان حد الفصل من الوظائف والتضييق على فرص العمل والتحرك الحر داخل الوطن، وكان لملحقها الثقافي الذي سار جنباً إلى جنب مع مجلَّتي "الغد" و"الجديد"، وملحقها الفكري " الدرب"  الدور الرائد في تثقيف الأجيال وتوعيتها ، وقد برزت من خلال هذه الصحافة التقدُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّمية والطَّلائعية ، العديد من الأسماء الأدبية التي حدَّدت ملامح وهويّة الأدب والشعر الفلسطيني، وشكَّلت مع كتَّاب المقالة السياسة والإجتماعية والإقتصادية، النواة النموذجية لصحافة مهنيَّّّّّّّّّة تستطيع أن تقف وتصمد أمام الصحافة الناهضة في الوطن العربي، بل وتتجاوزها فكريا وتثقيفياً أيضاً، ورغم  أن كل الظروف والمعطيات كانت ناضجة ومعدَّة آنذك لظهور جيل جديد من صحفيين وكتاب وأدباء، من أجل متابعة المسيرة التي رُسِّّّّّّّّّّّخت على يدي السابقين، إلا أن هذا الأمر ولأسباب كثيرة لا مجال للتوقُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّف عندها الآن رغم أهميته، لم يتحقق، مما جعل صحافتنا تغدو خاوية وسطحيَّة ومتهالكة، ونتيجة لذلك، أخذت تنمو عندنا صحافة من نوع مختلف لا يمكن وصفة بقفزة إلى الأمام، وحين انتشرت الصحافة الإعلانية البلاشية، رأيناها تنطلق من فراغ سببه الإنقطاع عن مرحلة "الإتحاد" التي توقَّّّّّّّّّّّّّّّّّّف فيها الزمن عند حد معيَّن من ناحية، وعند توظيف الصحافة بالجانب الإعلاني التجاري من ناحية ثانية . وإن تعيين بعض الصحف أسماء لها وزنها الأدبي للعمل فيها، لم يشفع لها على تحسين أدائها الصحفي، لأن الذي يرفع من شأن الصحافة ليس الأسماء وحدها ، بل الرؤية الصحفية التنويرية والنقدية  التي كانت وراء كل صحافة ناجحة.

ما تقدَّّّّّّّّّّّم يُشير بوضوح إلى فراغ واسع في مجال إعلامنا وحصافتنا، وهذا الفراغ الحاصل هو الذي امتد  إلى مواقعنا الألكرونية التي تتطوَّر صحفيا بالكم، وتتراجع بالكيف.

لا أكتب لأقلل من شأن أحد ، بل ربما لأحث على إحداث انطلاقة حقيقية اشتقنا لها، وأقول أكثر من ذلك، إن تكاثر الصحف والسباق على الأقلام ، قاد إلى هبوط في مستوى النصوص الثقافية والسياسية، وغياب المقال المتخصص في المواضيع المهنية!!