المقامة التفاوضية
عبد الرحيم صادقي
حدثنا حمزة المقدسي قال: بلغني أن عُصبة رام الله، دعت لناديها أهل الصحافة، ورجالا من ذوي الحَصافة. منهم الثائر والمسالم، والمثقف والعالم، والسياسي الناعم، وجمْعاً من ذوي المظالم. ثم إنهم عهدوا إلى ياسر أبي قحافة، بإدارة الجمع، مع حُسن السمع، وترك القمع، لإعلام الناس خطةَ التفاوض، بعدما طال التدابر والتعارض. وسئم الخصومُ التلاحي، وتترُّسَ الضواحي، عسى أن تندرئ الملامة، ويجلبَ التفاوض الكرامة. فاجتمع في نادي القوم ما تشايع عددا، وحضر مَن كانوا طرائق قِددا. فبعضٌ يرى التفاوض أغرَّ من سراب، وبعض يراه مَهْلَكة البلاد والخراب. إذ ليست مجالسة من ضُربت عليهم الذلة، وكلُّ العجب أن يُهزَم القوم من قلة، سوى نفخ في غير ضَرَم، ولا يتبدل الخيْبرِيُّ ولو غادر الجيزةَ الهَرَم. وطائفة لم يشغلها صونُ عرضٍ ولا حفظُ أرض، قد رضيت المذلة واستمرأت المهانة، فإذا ما ذُكر الجهاد، غلب القومَ الرُّقاد، فأووا إلى جحورهم وبئس المهاد. وطائفة شغلها التبرير عن مطلب التحرير، ترى النفير مدخل التغرير.
وبعد إسهاب وتطويل، وشرح وتعليل، أفسحت العصبة المجال للكلام، وقيل أفيدونا يا أنام! فقام صحافي وقال: أيها السادة الكرام، أصحاب الفخامة العظام، إن التفاوض فن وحكمة، فبعضه نعمة وبعض نقمة، ولقد غدوتم أتْيَهَ من قوم موسى، كيف لا وقد أعرض التركي حين استطاب القعود موسى!
وقال آخر: إن للتفاوض قواعد، غير الجلوس إلى الموائد. فمَن يَسْنُد ظهركم؟ ومن يشدُّ أزرَكم؟ فرَدَّ ابن أبي قحافة: إخواننا العرب، بهم يزول الكرب. قال الصحافي: أوكانت لديهم قُبَّة نجران؟ ومتى هدى القوم عُميان؟ أمَا بلغك أنه قد بالت بينهم الثعالب؟ وهل بالتمني تنال المطالب؟ وقال ثالث: استنجد غريق بغريق، أليس بأرض العُرب قد شبَّ الحريق؟ وآزره آخر قائلا: لأنتم أهون من قُعَيس على عمَّته، والثور يحمي أنفه برَوْقِه.
فرد أبو قحافة حنقا: إن الإبل تعود إلى مباركها، ولن ينسى العرب النسب. فقال أحد أحرار غزةَ هاشم: أخوك من واساك بنشَب، لا من واساك بنسب. وعلَّق سياسي قائلا: دَعْه فإن الثكلى تحب الثكلى!
ثم قام ثائر من جِنين وسأل: ولماذا لا تجاهدون؟ قد ذل قوم قاعدون؟ فأجابه "صانع وُريقات" بعد عَيٍّ وتلكؤ: أقلت يا سيدي الجهاد؟ ذاك أمرٌ دونه خرطُ القتاد. أونكون أحمى من مُجير الجرَاد؟ أنبكي على ما مضى وباد؟ أنكون أعْلَق من القُراد؟ وأردف ياسر قائلا: وهل يُلام هاربٌ من حتفه؟
فانتفض الثائر قائلا: خلق الله للحرب رجالا، ومن هاب خاب، فخَلِّ الحساب ليوم الحساب.
ثم نطق كبير الملإ أبو عجين: أمَحَّصتَ القُوى والموازين؟ إن الجهاد أبعد من بَيْض الأَنوق، ومن مناط العَيُّوق. أتُكلِّفُنا يا هذا مخ البعوض؟ أتريدنا شعبا نصفُه كليمٌ ونصفٌ مرضوض؟ ثم ألاَ رأيَ غير الجهاد؟ أليس التفاوض خيرٌ وسَداد؟ وإن جانبٌ أعياكَ فَالْحَقْ بجانب، وإلاَّ حَظيَّةٌ فلا ألِيَّة.
فقال سياسي أريب: لكنَّ وُعودَهم كالبرق الخُلَّب، ولا يُجنى من الشوك العنب. أم تُراكُم تُعوِّلون على مجلسٍ قيلَ للأمنِ زورا؟ وكلُّ العدى استظلوا بظله بل جعلوه سريرا. ثم أنشأ يقول:
يـا مـجلساً للأمن يـا حارساً أمن العِدى يـا خـاطِبا وُدَّ القَذى شمسُ الهُدى لا تَنْكسِف هـذا العراق قد دمَّروا والـقدسُ، لا لا تسألوا شُـلَّـت يمينٌ وقَّعت | لَمْيَـأمَن به غيرُ مـا زِدْتَنا غيرَ الغَضَن صُنْتَ الذي رام الفِتَن حِلْفُ الرَّدى لا يُؤتَمن أطـفـالَه منعوا اللَّبن كيف النَّجا بعد المِحَن؟ وعْـدَ الشَّنارِ المُرْتَهَن | النَّتِن[i]
ثم برز عالم وقال: أيها الملأ! إن العلماء أمناء الله على خلقه، ولذلكم سأقول لكم قولا صريحا، لقد بدأتم بغزة أريحا، وها أنتم تَسُوقون كلاما فصيحا، وما أوقف الكلامُ نَزْفاً ولا شفى جريحا، وما أنجد شعبا ذبيحا، ولا فدى أسيرا طريحا. وها أنتم اليوم قد رضيتم بالجحش لما فاتكم الأعيار، وخذلكم الصديق وغرَّكمُ الأغيار.
قال كبير الملأ وقد جاش مِرجلُه: وما نفعل وقد أهداهم بلفور الأرض؟ أذَنبُنا أنَّا نُحكِّمُ العقلَ لا السوانح؟ وأنَّى لنا بالسَّانح بعد البارح؟ ثم إن ربَّنا أعلمُ بما انطوت عليه الجوانح.
فأنشأ شاعر يقول:
بلفور لا أرض امتلك أين الحِجى في ما سلَك؟
بلفور يا شؤما نزل تُهْدي العِدى ما ليس لك؟
وانبرى الثائر قائلا: نضرب بالأحجار ولا نرضى العار، ونَسْتَفُّ التراب ولا نخضع لأحدٍ على باب. وعلى اليد ما أخذت حتى ترد.
فرد كبير "الواقعيين": دَأْماءُ لا يُقْطَع بالأرْماث، أيَرْمونَنا بالنار ونرميهم بالأرْوَاث؟
فردَّ الثائر: المعاذرُ مكاذب، ولو أردتم الخروج لأَعْدَدتُم له عُدَّة. ألاَ ما أشبهَ فلسطين بسروال عَلِيّ، وويل للشجيِّ من الخَلِيّ. لقد عهدنا أهونَ تفريطٍ يُعاب، لكن جذبَ الزِّمام يريضُ الصِّعاب، والجهل شر الأصحاب.
ثم برزت عجوز من الناصرة وقالت: أَصْدُقكم القولَ أيها الملأ، لقد اغتنى أكثرُكم بقضيتنا وغدا لكم شان، وبِعلَّةِ الوَرَشان يأكُلُ رُطَبَ المُشَان. أفيدُوني بربكم! هل أوقف تفاوضُكم الاستيطان؟ هل عاد المُهَجَّرون إلى الأوطان؟ هل آبَت القدس إلى الأحضان؟ ومن يثأر لدير ياسين؟ وكفْر قاسم وجنين؟ من يكفكف الدمع ويسمع الأنين؟ أنسيتم الشجاعية وقبية؟ وحصار غزة الأبية؟ وما تقولون للشهداء؟ للجرحى ومن لبى النداء؟ أنسيتم صبرا وشاتيلا؟ ألا تقفون موقفا نبيلا؟ أم يعوزكم يا ترى الدليل؟ ألا يكفي حرم إبراهيم الخليل؟ أيتها الحكومة لقد بلغتِ من الكِبَر عُتيَّا! وجئتِ تالله أمرا فرِيًّا.
وبينما العجوز تَقْرَعُ الملأ، وتزيلُ عن القلوب الصَّدأ، إذا بضجيج الأباتشي يعُمُّ الفضاء، وصوتِ نسْفٍ في الأرض كما في السماء. فهرع الملأ إلى المخابئ، وغصَّت بالمُخلَّفين الملاجئ، وظلت العجوز شامخة تُناوئ، وأسفلَ قدَمَيْها القِيان والنواشئ...
i]i] - وَلتكن تصغير نتنياهو!!