عالبازار
ناديا مظفر سلطان
"عالبازار" مصطلح متعارف عليه في مدينتي حلب ،(السورية) عند شراء أي عقار
فإذا سئل البائع عن قيمة عقاره وأتبع الإجابة باللفظة "عالبازار" فهذا يعني أن السعر الذي يطلبه ليس نهائيا وإنما قابلا للتفاوض .
ولبضع سنين خلت استطعت أن أتعرف على هذا المصطلح من خلال مشاهدة واقعية حية .
وتقتضي الأصول أن تتم فصول هذه المسرحية على خشبة الأحداث في مقر المكتب العقاري حيث تعقد الصفقة.
ومن أصولها أن يتبارى الطرفان برفع الأصوات، فيعلو الصراخ ،وتجأر الحناجر، وتنتفخ الأوداج ، كما قد يضطر احد الطرفين إلى التظاهر بالانصراف مهددا بشكل غير مباشر بإبطال الصفقة .
ومع أنني كنت آنذاك أشكل أحد الطرفين إلا أنني آثرت بالاحتفاظ بموقع المتفرج لعجزي التام عن إتقان الدور في هذه المسرحية العجيبة متخلية عنه ل صاحب المكتب العقاري .
والله سبحانه قد أنبأنا في كتابه العزيز أنه قد ،" خلق الإنسان .علمه البيان "
والبيان لفظة تدل على أعلى قيمة للكلمة المنطوقة ك( معنى ومضمون) وك (لفظ وأداء)
والاعتبار القرآني يفرد قيمة عالية للكلمة لا يضاهيه بها أي اعتبار آخر قد جاء في مؤلفات الفلاسفة أو موسوعات الباحثين أو ملاحم الشعراء والكتاب والمؤلفين.
"إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم" 45آل عمران
فالكلمة هنا إنسان وليس إنسانا عاديا ، بل هو النبي عيسى بن مريم عليه السلام.
وفي الحقيقة أن الكلمة تقوم على الإتقان والإبداع وعليه فإن التواصل فن
والتواصل إجمالا هو علاقة بين طرفين
وكل عملية تواصلية تتضمن رسالة من مرسل في اتجاه مستقبل أو متلقي وهذه الرسالة تتضمن قيمة يريد المرسل إيصالها إلى المتلقي
كما أن النظرية العلمية التواصلية موزعة بين عدة علوم خاصة اللسانيات و الاجتماع والرياضيات
والقرآن يوجهنا إلى التواصل
" يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا "13الحجرات
والتواصل له مفهومان بشكل عام كلغة وكاصطلاح ، فالتواصل
لغة، يفيد الاقتران والاتصال والصلة والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ والانتهاء والإعلام وهو ما يعرف في اللغة الانكليزية communication
أما اصطلاحا فهو عملية نقل الأفكار والتجارب وتبادل المعارف والمشاعر بين الأفراد والجماعات
ويعرف شارل كولي التواصل قائلا :التواصل هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور. إنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان .
وللتواصل أنواع فهناك التواصل الإنساني والآلي والسيمائي فهناك التواصل البيولوجي والإعلامي والآلي والسيكولوجي والاجتماعي والسيموطيقي والفلسفي والبيداغوجي والاقتصادي .. و إن وظيفة الاتصال تتسع لتشمل آفاقا أبعد فكثير من الباحثين يتناولون الاتصال كوظيفة للثقافة وكوظيفة للتعليم والتعلم وكوظيفة للجماعات الاجتماعية وكوظيفة للعلاقات بين المجتمعات بل ويعتبرون الاتصال كوظيفة لنضج شخصية الفرد وغير ذلك من جوانب توظيف الاتصال )
ويرتبط التواصل بعدة علوم ومعارف يمكن حصرها في علم التدبير واالتسيير والعلاقات العامة والبيداغوجيا والدياكتيك وعلم التسويق وعلوم الاتصال والفلسفة والسيميولوجيا
وفي التواصل اللفظي يعتبر الحوار نوع من أنواع التواصل بين الناس يفترض فيه آداب وقيم معينة
والقرآن الكريم يزخر بأنواع شتى من الحوار وكل غايته تعزيز هذا النوع من التواصل بين البشر وإرشادهم إلى النهج ذاته من الصفات والآداب
والله سبحانه وتعالى - بعظمته وتفرده في القضاء والحكم ،وأمره المبرم بين الكاف والنون - قد تحاور مع الشيطان " قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين"الحجر
، وتحاور مع الإنسان " وكلم الله موسى تكليما"النساء
، وتحاور مع الملائكة ."وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"البقرة
و في القرآن أكثر ما جاء في الحوار كان على لسان إبراهيم "الفتى الأواه الحليم"
وإبراهيم عليه السلام كانت له مواقف حوارية مختلفة من شأنها أن تتخذ مثلا أعلى في فن الحوار فقد تحاور مع الملك النمرود فأذهله وألجمه عن الكلام ولم يخرجه التحدي عن طوره
وإبراهيم قد ابتدأ حواره بدعوة منه إلى الملك كي يؤمن بالله فقال له كبرهان عن قوة الله وعظمته
"ربي الذي يحيي ويميت"
ويرد النمرود بإجابة ملؤها الاستخفاف و الاستكبار:
"أنا أحيي وأميت"
وهي إجابة فيها بعض الصواب كأي ملك أو ديكتاتور يستطيع بإشارة منه أن يضرب عنق أي فرد من الرعية
وأستطيع أن أتصور اليوم حوارا كهذا ، لا بد أن يعلو خلاله صوت الداعية بالصراخ قائلا: يا عدو الله أو لعنة الله عليك أيها الكافر!
أو أن يمتشق أحدهم سيفا فيما بعد ويبادر إلى قطع عنق الملك!
أو أن يخطط لعملية انتحارية تريح العالم من هذا الطاغية !
ولكن إبراهيم أجاب ببساطة متناهية
"قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر"
و إبراهيم بجوابه هذا قد أدرك أنه لو أصر على التشبث برأيه ربما أباد الملك نصف رعيته كبرهان على قوته وجبروته
لقد غير إبراهيم دفة الحوار إلى حقيقة علمية بحتة لا يمكن الاختلاف فيها أ
والعلم قضية تسمو عن الاختلاف وتنأى عن النزاع والحوار فيها دائما مغني ومفيد ولا مجال فيه لأي عنف
وهل يمكن مثلا أن يتنازع رهط من العلماء يبحثون في علاج ناجع للسرطان أو إيجاد لقاح للإيدز، مهما اختلفت مذاهبهم وخلفياتهم ؟؟
وإبراهيم تحاور أيضا مع أبيه فلم يسيء الأدب بل كان يستهل كل عبارة يباشر فيها الحوار بلفظة تنضح رقة وأدبا "يا أبتي"
وكان الحوار تصاعديا بين إبراهيم وأبيه حتى الختام..
والحقيقة أن خاتمة الحوار كانت آية في الروعة من الرقة والأدب وضبط النفس
فالأب يزمجر غاضبا بل و مهددا ابنه "لأرجمنك واهجرني مليا"
وتأتي إجابة إبراهيم العجيبة " سلام عليك سأستغفر لك ربي"
وبين التهديد بالرجم وإلقاء السلام مسافة شاسعة!!
وفي موضع آخر تحاور إبراهيم مع قومه بالحجة المقنعة
فلما سئل عمن حطم أصنامهم وكاد آلهتهم
كانت إجابته "قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ".
وهي إجابة فيها قوة ومنطق وذكاء.
وخلال التوجيه القرآني في" فن الحوار" لم يقترن البغي والكفر قط بالضرورة لرفع الصوت أوإهانة الطرف الآخر والإقلال من شأنه أو تهويل مقالته
بل إن الله سبحانه قد أوصى موسى وهارون " بالقول اللين" مع فرعون الذي" طغى"
"اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لينا"44طه
وهكذا وكما يبدو أن اللين والطغيان متناسبان طردا على خلاف ما نرى اليوم ، أو ما يتخيل البعض ،فكلما أمعن الطاغية في غيه كان اللين والرفق أجدى وأصوب في الحوار معه.
والفضائيات اليوم تذكرني بحلبات مصارعة الديوك من خلال بعض البرامج " الحوارية" للأطراف ذات" الاتجاهات المتعاكسة" وقد جاهدت كثيرا كي أتابع بعضها ،لعلي أظفر ببعض الفائدة ،ولكن وللأسف قلما استفدت من فكرة أو رأي أو خلصت إلى نتيجة سوى عروض "الآكشن" التي يسعى لها البرنامج والتي تستهدف زبائن أكثر في "بازار" التواصل الشعبي.
وبشكل عام تسود روح "الآكشن" عالم الفضائيات ويميل الناس اليوم إلى التواصل الغير لفظي .
وفن التواصل اليوم يعتمد كليا على حركات الجسم والإيماءات ولا تخلو أي محطة ترفيهية من الراقصين والراقصات ومن القائمين ب حركات عجيبة ، تذكر إلى حد بعيد بحديقة حيوان قد خرج مخلوقاتها عن طورهم .
ويبقى التواصل" الغير لفظي "هذا أرحم وأرفق بالمشاهد من الاستماع إلى الأغاني الحديثة
وأن يقتصر هذا" التواصل مجازا"، على الحركات والإيماءات على الأقل فيه ما يغني عن تلويث السمع بألفاظ هابطة وكلمات نابية تصك السمع وتخدش الحياء.
وبين ما تبثه أجهزة التواصل وبين ما وجهنا إليه القرآن
مسافة هائلة أبعادها تماما كما جاء في سورة التين بين خلق الإنسان في أحسن تقويم... وبين هبرطه إلى أسفل سافلين
وبين "البيان"، الذي كرم الرحمن به الإنسان وبين ترديه إلى لغة سوقية رخيصة ومبتذلة
بون شاسع
ولكنها لغة السوق وغايتها التسويق فحسب دون أي اعتبار آخر.
ويبقى للبازار تواصله الخاص.