من أساليب التربية في القرآن الكريم 44

من أساليب التربية في القرآن الكريم

التخطيط واتخاذ الأسباب (44)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

 العمل الارتجالي لا يؤتي أكله كما لو كان مُعَداً إعدادً جيداً ومدروساً دراسة وافية ، ومعروفة أبعاده وجدواه ، ومراحله .

 وكل عمل أو فكرة تخطر على البال لا بدَّ أن تخطط له تخطيطاً ، جيداً تراعي فيه الهدف منه وبدايته وإتمامه وإيجابياته وسلبيّاته ، وإلا كان عملاً عشوائياً قد ينجح وقد يفشل ، واحتمالات فشله أكبر . وإن نَجَحَ فنجاحُه مرحليٌّ أو غير مكتمل .

 والقرآن الكريم يضع بين أيدينا نماذج من التخطيط ، الذي يؤدي إلى الوصول إلى الهدف المنشود منها :

 ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحب يوسف أكثر منهم ، ويفضله عليهم ، فماذا يفعلون ؟ تدارسوا الأمر فيما بينهم فقال بعضهم : (( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) ))(1) .

 تفكير شيطاني سهَّلَ لهم القتل ، وبعد ذلك يعودون أتقياء أنقياء وكأن القتل لا يترك في القلب نكتة سوداء تؤرق صاحبها إلى أن يموت (( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) ))(2) .

 وقلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجب أسلم لهم ، ولن يؤرقهم كما لو أنهم قتلوه . . ثم جاءوا أباهم يقنعونه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف معهم ، في رحلة برية يتريضون ويصطادون ، وأكدوا لهم حرصهم على أخيهم ، فلما أظهر الأب تخوفه أن يتركوه وهو صغير فيعدو عليه ـ في غفلة منهم ـ الذئبُ فيأكله أقسموا أنهم لا يتركونه وإلا فهم خاسرون . وكأنه لقّنهم حجة هم بحاجة إليها يتعللون بها عند أبيهم . . وهكذا كان (( قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) ))(3) .

 وحبكوا قصّتهم ورتبوا مكرهم ونفذوا خطتهم ، (( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) ))(4) .

 فقد :

1ـ جاءوا أباهم عشاءً فلا يرى الغدر في عيونهم .

2ـ بدأوا يبكون فشعر بالخطب الجسيم قبل أن يلقوه على سمعه .

3ـ هيّأه بكاؤهم على تقبّل المصيبة التي سيسمعها منهم .

4ـ تلطّفوا له بالقول : " يا أبانا " ولهذا فائدتان :

 الفائدة الأولى : هي كلمة استعطاف ليرقّ قلبه لهم فلا يعاقبهم .

 الفائدة الثانية : إيهامه صدقهم في حرصهم على أخيهم .

5ـ لقّنوه الحجة التي سمعوها منه في اعتذاره عن إرسال يوسف معهم " أكله الذئب " .

6ـ أنت لا تصدقنا مع أننا صادقون .

 لكنَّ هذا التخطيط المحكم نقض بخطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا حين (( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ))(5) .

 كان القميص ملوّثاً بدم لكنّه غير ممزّق ، فالذئب الذي أكله كان ذكياً!! لقد جعله يخلع قميصه قبل أن يأكله حتى يستفيد منه إخوته!! لذلك لم يكن التخطيط كاملاً ، فهذه الثغرة فضحتهم ، وعرف الأب ذلك فقال : هذا مكر دفعكم إليه نفوسكم الخبيثة .

 ـ وهذه إمرأة العزيز تراود يوسف حين بلغ مبلغ الرجال وكان جميلاً ، وسيماً ، تتفجر الدماء من عروقه ويطفح وجهه إشراقاً فيأبى ذلك ويقول : (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ))(6) فزوجُها أكرمَ يوسفَ ، وتعهده بالرعاية . فكيف يسيء إليه في زوجته ؟! لا يفعل ذلك إلا الخائنون الذين يجازون الإحسان بالسوء ، ويوسف ليس منهم .

 وانتشر الخبر بين نساء المدينة :

أـ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه .

ب ـ امتنع عليها وأذلَّ كبرياءها .

 والأمران وصمة عار عليها فأرادت أن تلجم أفواههن فماذا فعلتْ :

1ـ دعتهن إلى قصرها .

2ـ أكرمتهن بالطعام والفاكهة .

3ـ أمرت يوسف أن يخرج عليهن فخرج .

4ـ رأينه فائق الجمال ملكاً يمشي على الأرض ، فدهشن لهذا الجمال الأخاذ .

5ـ لم يشعرن إلا والدماء تسيل من أصابعهن فقد أخذ الإعجاب بجماله والدهشة له منهن كل مأخذ ، فجرحن أيديهن .

6ـ شعرت بالانتصار عليهن ، فعاتبتهن على ما قلن في حقها من تجريح .

7ـ حين رأت نفسها منتصرةً عليهن باحت بمكنون قلبها نحوه ، وأصرت على تعلقها به والرغبة في وصاله ، ولو أدى ذلك إلى سجنه إن أبى .

 وهذه خطة جهنميّة لا يفعلها إلا صاحب الكيد الذكي (( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32 ))(7) .

 ثم تأمل معي كيف خطط عليه الصلاة والسلام للخروج من السجن بل كيف خطط الله تعالى له :

1ـ (( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ )) .

فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ؟

قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ

قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي

فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) ))(8) .

 وهكذا كان تخطيط الله تعالى له حيث أخرجه من السجن إلى الصدارة ومن كونه مرؤوساً إلى صيرورته رئيساً .

 وكيف خطط يوسف عليه السلام لاستعجال أخيه بنيامين إلى مصر ؟ :

1ـ (( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)

قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ

يَرْجِعُونَ (62)

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ

لَحَافِظُونَ (63) ))(9) .

7ـ (( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) ))(10) .

 إضاءة : أراد أن يرى أخاه الشقيق ، فأظهر تعجبه من كثرتهم وهم عشرة رجال ، فقالوا هناك عند أبيهم رجل آخر . فقال عند ذلك جيئوا به لأراه ، فإن لم يجيء فلا كيل لكم عندي .

 ولن يعودوا سريعاً ، إنما سيعودون حين ينفذ القمح ، لذلك جعل ثمن البضاعة فيها لعلمه أنهم حين يفتحون متاعهم ، سيجدون ثمنه ، وسيضطرون إلى العودة لدفع الثمن ، وفي الوقت نفسه يأخذون ميرة جديدة ، لكنه لم يعطيهم إذا لم يكن أخوه معهم . إذاً سيضغطون على أبيهم ليسمح باصطحابهم بنيامين وهكذا كان ، بعد أن استوثق منهم على الحفاظ عليه .

 أما كيف خطط ليحتفظ بأخيه دون أن ينتبهوا إلى ذلك ؟ :

1ـ (( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)

قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ

ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ . . ))(11) .

 في شرع الملك كان السارق يضرب ، ويعنّف ، ويدفع ضعف ثمن ما سرقه . أما في شرع يعقوب وأبنائه فإن السارق يصبح عبداً لمن سرقه ، فعاملهم بشريعتهم لا شريعة الملك .

 أما قصة سيدنا موسى في سورة طه ، وتيسير الله وحفظه له في قصر فرعون فتراها في الآيات [ 37 ـ 40 ] .

1ـ أوحى الله إلى أمّه أن تضعه في صندوق خشبي بعد إرضاعه .

2ـ أمرها بإرضاعه كي يحبه موسى ، فلا يتقبّل موسى ما يُقدَّم له من حليب المرضعات غير حليب أمه الذي استساغه ولن يرضى بغيره .

3ـ دفعته الأمواج بإذن الله إلى قصر فرعون ، عدو الله ، وعدو موسى .

4ـ كتب الله له القبول عند آل فرعون ، ليبقى عندهم .

5ـ متابعةُ أخته له حتى تعرف إلى أين سينتهي .

6ـ أختُه تدلُّ الباحثين على أمه لترضعه .

7ـ عودة موسى إلى أمّه بعون الله ومساعدته .

 إنه تخطيط رب العالمين ، يحفزنا على ترتيب ما نريده بخطة سليمة ، وتفكير سديد .

 ونلحظ التخطيط في كسر إبراهيم أصنام قومه ، حين أرادوا الخروج من المدينة في عيد لهم فأعتذر بأنه مريض فتركوه ، وخرجوا ، فاغتنم فرصة خلوّ المكان فانطلق إلى الأصنام فحطمها (( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) ))(12) .

 ـ أراد الله سبحانه وتعالى أن يعبده الناس متجهين إلى قبلة محددة ، فبيّن لإبراهيم مكان بناء البيت كي يقصده الناس حاجين وأمره بعد انتهاء البناء أن يؤذِّن فإذا أذَّن أسمع الله نداءه إلى المخلوقات جميعاً .

 (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ

 أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا

 وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ . . . ))(13).

 فالله سبحانه خطط منذ القدم أن يكون البيت الحرام في مكة قبلة لعباده ، يحجون إليه ويطوفون حوله ويعبدون ربّه .

 وقام إبراهيم وابنه اسماعيل ببناء البيت وتجهيزه لحجاج بيت الله الحرام ، ثم أذّن فسمعت النُّطَفُ أذانه فرددت ما قال .

 وفي سورة النمل الآيات [ 27 ـ 44 ] :

1ـ عاد الهدهد إلى سليمان يحمل خبر مملكة اليمن التي يسجد أهلها للشمس ويعبدونها .

2ـ حَمَّلَ سليمانُ عليه السلام الهدهد كتاباً فيه دعوة إلى الإيمان بالله ، يلقيه بين يدي بلقيس ملكة سبأ ، ثم يبتعد فيراقب ردة الفعل .

3ـ أرسلت بلقيس هدية إلى سليمان علّه يتركها وبلادها .

4ـ لما أبى سليمان إلا إسلامها وقومها انطلقت إلى عاصمة ملكه زائرة .

5ـ أراد اختبار ذكائها فأمر بحمل عرشها إلى فلسطين .

6ـ حمله أحد العارفين بالله في لمحة البصر بإذن الله .

7ـ نكّر عرشها وعرضه عليها فلم تخطئه .

8ـ بنى قصراً من الزجاج الصافي ، فلما أرادت دخوله كشفت عن ساقيها ظانّة أنه ماء لشدة صفائه .

9ـ رأت عظمة ما لسليمان من ملك ونبوّةٍ فآمنت بدينه .

 والملوك لتعاظمهم لا يسلّمون لأمر إلا إذا كان عظيماً ، فخطط سليمان لذلك بجلب عرشها وبناء القصر العظيم ليخلب لبَّها ابتداءً فتسلم له ، وكان تخطيطه موفقاً .

 وقبل ذلك نجد النملة تتخذ الأسباب ، ويساعدها على ذلك سليمان عليه السلام ، فنرى سليمان ينطلق وجنوده من الجن والإنس والطير ، فيصلون إلى وادي النمل ، وكان النمل خارجاً من أعشاشه يبحث عن رزقه ، فإذا ظلَّ منتشراً في الوادي فستطؤه أرجل الجنود ، وحوافير الخيل ، وقوائم السباع ، والجيش كبير العدد ، ولن تسلم نملة منهم ، فقالت نملة لبيبة رأت من بعيد جيش سليمان يهز الأرض تحته صارخة في قومها منبهة السامعين منهم ليحذروا (( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ))(14) .

 فيسمع سليمان عليه السلام صوتها وتحذيرها ، فيوقف تقدم الجيش ، ويسألُ ربه أن يرزقه شكره على نعمه التي وهبه إياها ولوالديه ، ويسأله العمل الصالح الذي يرضيه ، وأن يرزقه جنته ورضوانه ، ودخلت النملة مسكنها وتبعها النمل فخلا الجوُّ منهم(15) وفرغت الأرض ، فانطلق الملك سليمان عليه السلام إلى هدفه شاكراً حامداً . .

 ويخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الأسباب الماديّة والمعنوية في لقاء العدو .

 ـ أما المثال على اتخاذ الأسباب المعنوية فقوله سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً

أ ـ فَاثْبُتُوا

ب ـ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

جـ ـ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

د ـ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ

هـ ـ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) ))(16) .

 ثم نهاهم أن يكونوا بطرين أشرين يراؤون الناس ولا يخلصون لله سبحانه (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ

مُحِيطٌ (47) ))(17) .

 فالثباتُ ، وذكرُ اللهِ ، وطاعتُه وطاعة رسوله ، والوحدةُ الإيمانية ، والصبرُ ، والبعد عن الرياء ، والإخلاصُ لله سبحانه أسباب معنوية ، إن اتخذها المسلمون نصرهم الله تعالى ، ولا أرانا في هذه الأيام الرديئة نتصف بواحدة منها . . . لذلك ترانا كالقصعة التي يتداعى الأَكَلَةُ الشرهون إلى التهامها .

 ـ والمثال على اتخاذ الأسباب المادية قوله سبحانه : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) ))(18) .

 فالإعداد الماديّ يستدعي :

1ـ التربية البدنيّة واللياقة العالية .

2ـ التدريب على السلاح بكل أنواعه .

3ـ تأمين السلاح الثقيل ، والتدرب عليه .

4ـ إرهاب العدو بإظهار القوة قدر الإمكان .

5ـ القوة ترهب من يمدُّ العدوُّ ويساعده .

6ـ إنفاق المال في سبيل الله والعقيدة .

 وهذا سيدنا موسى عليه السلام يرى ـ وهو عائد إلى أهله في مصر وزوجته معه ـ ناراً والدنيا باردة ، والمكان مظلم ، ولا بدَّ للدفء والأمان ، ورؤية من يقصدونه من الحصول على النار ، وها هو يراها من بعيد فيترك أهله قريباً من المكان ، ويسرع إلى الضوء ليقبس قبسة تفيده فيما يرمي إليه من أحد يدله على الطريق ، فقد ضلّ عنه وقد هبت ريح شديدة فرّقت ماشيته ، فهو يسعى لنار تريه إياها كما أن زوجته أخذها الطلق ، وهذا أخذ بالأسباب الموصلة إلى

الراحة ، والأمان ، والدفء . . .

 وهناك يكلمه الله سبحانه وتعالى ويعرفه بحقيقته ، ويأمره أن يذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله سبحانه (( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) ))(19) . ويعطيه الله سبحانه من الأسباب المساعدة على إبلاغ الدعوة سلاحين :

أ ـ العصا التي تنقلب ثعباناً يثير الرعب والهلع في نفوس الحاضرين .

ب ـ التوهج الشديد ليده حين يدخلها في جيب قميصه .

 كما يؤيده بأخيه هارون فهو فصيح اللسان واضح الكلام .

 وينفي عنه الخوف من فرعون أن يقتصَّ منه لأنه قتل قبطياً . .

 (( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ

 يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31)

 اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ

 وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ

 فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

 قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

 قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا

 بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) ))(20) .

 ـ وتأمل معي أمر الله تعالى لموسى في النجاة من فرعون ، ثم إغراق فرعون (( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) ))(21) .

 (( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)

 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

 فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

 فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

 قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)

 فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64)

 وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)

 ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) ))(22) .

 (( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) ))(23) .

 تجد موسى عليه السلام اتخذ الأسباب التالية :

1ـ استنجد بربه حين دعاه أن ينقذه وقومه من فرعون وجنده .

2ـ أمره الله أن ينطلق بقوة اتجاه المشرق ، فسار بهم ليلاً كي يقطع مسافة طويلة قبل أن يشعر بهم فرعون .

3ـ وحين وصلوا إلى شاطىء البحر كان فرعون مسرعاً بجيشه يقترب منهم . فقد رأى كل من الطرفين الطرف الآخر ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ففعل ، فانفلق البحر ، وانشق طريقٌ يابسٌ بين جبلين من الماء .

4ـ أسرع موسى بقومه إلى الطرف الآخر وهم مشفقون خائفون .

5ـ وصل موسى وقومه إلى الشاطىء الآخر ، وهمَّ أن يضرب الماء ليعود البحر كما كان حتى لا يستطيع فرعون العبور إليهم .

6ـ أمره الله سبحانه أن يترك البحر كما هو ليدخل فرعون الطريق وجنوده ، فلما صار الجيش كلّه في الطريق أمر الله تعالى الماء ، فعاد كما كان فأغرق الكافرين .

 فالاستنجاد بالله ، والدعاء له ، والمسير في الليل ، وضرب الماء ، ثم الهمٌّ بضربه مرة أخرى ليعود كما كان . . اتخاذ للأسباب .

 لكنَّ التخطيط واتخاذ الأسباب لا يوصلان إلى الهدف إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى ذلك ، فعلينا التفكير وعلى الله التدبير ، وهذا هو التوكل على الله .

               

(1) سورة يوسف ، الآية : 9 .

(2) سورة يوسف ، الآية : 10 .

(3) سورة يوسف ، الآيات : 11 ـ 14 .

(4) سورة يوسف ، الآيتان : 16 ، 17 .

(5) سورة يوسف ، الآية : 18 .

(6) سورة يوسف ، الآية : 23 .

(7) سورة يوسف ، الآيتان : 31 ، 32 .

(8) سورة يوسف ، الآيات : 50 ـ 55 .

(9) سورة يوسف ، الآيات : 58 ـ 63 .

(10) سورة يوسف ، الآية : 65 .

(11) سورة يوسف ، الآيات : 69 ـ 76 .

(12) سورة الصافات ، الآيات : 88 ـ 93 .

(13) سورة الحج ، الآيتان : 26 ، 27 .

(14) سورة النمل ، الآية : 18 .

(15) عاملتُ النملَ معاملة المذكر لأن الله سبحانه وتعالى حين تحدث عنهم فقال (( . . ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ . . )) جعل الخطاب

 بواو الجمع وميم الجمع ، والله أعلم .

(16) سورة الأنفال ، الآيتان : 45 ، 46 .

(17) سورة الأنفال ، الآية : 47 .

(18) سورة الأنفال ، الآية : 60 .

(19) سورة القصص ، الآية : 29 .

(20) سورة القصص ، الآيات : 31 ـ 35 .

(21) سورة طه ، الآيتان : 77 ، 78 .

(22) سورة الشعراء ، الآيات : 57 ـ 66 .

(23) سورة الدخان ، الآيتان : 23 ، 24 . والرهْوُ : ترك البحر منفرجاً مفتوحاً .